تشهد دولة الإمارات العربية المتحدة تحولاً استراتيجياً في توجهاتها التجارية، لم يعد يقتصر على تعزيز العلاقات مع الشركاء الآسيويين، بل يشمل اليوم تحركاً حيوياً نحو توسيع الشراكة الاقتصادية مع أوروبا، في إطار سعي الدولة لإعادة تموضعها كمحور حيوي في سلاسل القيمة العالمية، لا كممر عبور فحسب، بل كفاعل إنتاجي وتقني.
في تطور بارز، أعلن المفوض الأوروبي لشؤون التجارة والاقتصاد، ماروش شيفتشوفيتش، عن الإطلاق الرسمي لمفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين الإمارات والاتحاد الأوروبي، واصفاً ذلك بأنه يوم مهم في العلاقات التجارية، ومؤكداً التزام الطرفين بالتوصل إلى اتفاق طموح وهادف يعود بالفائدة على الجانبين، ووفق التصريحات الرسمية يبلغ حجم التبادل التجاري في السلع حالياً نحو 56 مليار يورو، فيما تبلغ تجارة الخدمات 39 مليار يورو، ما يعكس عمق العلاقة الاقتصادية القائمة، ويشير إلى الإمكانات الهائلة التي يمكن أن يطلقها اتفاق تجاري شامل.
الاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها الإمارات مؤخراً، مثل الشراكات في مجالات الطاقة والهيدروجين الأخضر والتقنيات المستقبلية، تعزز من مساعي الدولة نحو بناء محور إنتاجي مشترك مع أوروبا يتجاوز التبادل التجاري التقليدي، ليصل إلى التكامل الصناعي والاستثماري، وقد بدأت شركات أوروبية كبرى بافتتاح مراكز إقليمية لها في أبوظبي ودبي، مستفيدة من البنية التحتية المتقدمة والتشريعات الداعمة للاستثمار الأجنبي، كما يشهد قطاع الطيران فرص توسع كبيرة، حيث تُعد الإمارات بوابة لوجستية حيوية لربط أوروبا بآسيا وإفريقيا، ويمكن لاتفاقية التجارة أن تُسهّل إنشاء خطوط إنتاج وصيانة مشتركة مع كبريات شركات الطيران الأوروبية.
كذلك، فإن قطاع الصناعات الدوائية يوفر فرصة استراتيجية لتطوير مصانع إنتاجية مشتركة تضمن تدفق الأدوية في ظل التحديات العالمية، أما الابتكار الرقمي فيُعد أحد أكثر المجالات الواعدة، إذ تسعى الإمارات لتكون مركزاً لتقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، في وقت تبحث فيه أوروبا عن مراكز مرنة وآمنة لمعالجة بياناتها.
تاريخياً، كانت العلاقات بين دول الخليج والاتحاد الأوروبي تراوح بين التعاون والتعثر، إذ انطلقت مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة منذ عام 1991، لكنها اصطدمت بعراقيل سياسية أبرزها اشتراط الاتحاد الأوروبي إدراج قضايا سيادية في الإطار التفاوضي، وهو ما اعتبرته بعض الدول الخليجية تدخلاً في شؤونها الداخلية، كما أن تصاعد النزعة الحمائية داخل بعض الدول الأوروبية، وتنامي نفوذ الأحزاب اليمينية، قلص من فرص بناء شراكات اقتصادية مرنة. بالمقابل، هناك إدراك متبادل اليوم لأهمية تجديد العلاقات على أساس المصالح المشتركة.
الإمارات، بحكم موقعها الجغرافي واستقرارها السياسي وتقدمها التشريعي، باتت شريكاً محورياً في أي رؤية أوروبية تهدف إلى تنويع سلاسل التوريد وتأمين الموارد الحيوية، لا سيما في ظل الضغوط الجيوسياسية التي عصفت بالقارة الأوروبية في السنوات الأخيرة، فقد أدّت الحرب الروسية الأوكرانية إلى أزمة طاقة حادة أرغمت أوروبا على البحث عن بدائل موثوقة، كما أن التوترات المتصاعدة مع الصين في مجالات التكنولوجيا وسلاسل التوريد زادت من الحاجة إلى تنويع الشركاء، أضف إلى ذلك تداعيات جائحة كوفيد-19 والانكماش الدوري في سلاسل الإمداد العالمية، والتي دفعت صناع القرار الأوروبيين إلى إعادة تقييم خريطة الشراكات الاقتصادية العالمية، والبحث عن محاور بديلة أكثر مرونة واستقراراً، وهو ما جعل من الإمارات لاعباً استراتيجياً في هذا التوجه.
العدد الكبير لدول الاتحاد الأوروبي، البالغ 27 دولة، يمنح الاتفاق المرتقب ثقلاً جيوسياسياً واقتصادياً استثنائياً، خاصة إذا ما استطاعت الإمارات بلورة نموذج شراكة مرن يحترم خصوصيات الأطراف ويخدم مصالحهم المتبادلة، وإذا أُخذ بعين الاعتبار أن الاتحاد الأوروبي هو ثاني أكبر شريك تجاري لدول الخليج بعد الصين، فإن التوصل إلى اتفاق شامل بينه وبين الإمارات سيُعزز من موقع الدولة كمحور إقليمي للعبور والتكامل، ويُسرّع من تدفق الاستثمارات الأوروبية النوعية إلى المنطقة، خاصة في القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة النظيفة والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي.
من جهة أخرى، هناك فرص اقتصادية نوعية تلوح في الأفق، مثل صفقة بقيمة 50 مليار دولار لإنشاء مركز بيانات للذكاء الاصطناعي مع فرنسا، والتزام استثماري بقيمة 40 مليار دولار ضمن قطاعي الطاقة والدفاع في إيطاليا، ما يؤكد أن الاتفاق المرتقب ليس مجرد إطار قانوني، بل منصة لإعادة هيكلة العلاقة الاقتصادية بين أبوظبي والعواصم الأوروبية، كما أن الإمارات من خلال توقيعها اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة (CEPA) مع دول كالهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية، تقدم نموذجاً ناجحاً يمكن أن يسهل الطريق نحو اتفاق خليجي أوسع مع الاتحاد الأوروبي، انطلاقاً من تجربة إماراتية ناضجة.
الإمارات ستستفيد من زيادة صادراتها غير النفطية، ومنح منتجاتها الصناعية والزراعية والتكنولوجية وصولاً تفضيلياً إلى السوق الأوروبية، الأمر الذي يعزز من تنافسيتها ويقلل من الاعتماد على أسواق تقليدية، كما سيُسهم الاتفاق في خفض الرسوم الجمركية وتحسين البيئة القانونية للمستثمرين الأوروبيين. أما أوروبا، فستستفيد من سوق إماراتية متقدمة ومنفذ استراتيجي نحو الخليج وشرق إفريقيا، ومن شراكات جديدة في مجالات الطاقة النظيفة واللوجستيات والرقمنة.
لدعم هذا المسار، ينبغي على الطرفين تعزيز التنسيق المؤسسي في القطاعات الاستراتيجية، وتطوير منصات مشتركة للابتكار، وتبادل البيانات والمعرفة، ووضع إطار واضح لتسوية النزاعات التجارية، إضافة إلى تسهيل التنقل المهني بين الجانبين لتعزيز التكامل البشري والمهني، كما يُستحسن أن تتضمن الاتفاقية بنوداً مرنة تسمح بانضمام دول الخليج الأخرى مستقبلاً، بما يعزز من تكامل المنطقة اقتصادياً ويوفر نموذجاً عالمياً جديداً للتعاون العابر للقارات.
إن بناء هذا المحور الاقتصادي الجديد بين أبوظبي وأوروبا يتطلب رؤية استباقية، ومرونة تفاوضية، وقدرة على التكيّف مع المتغيرات العالمية، وإذا تُوِّجت المفاوضات الحالية باتفاق فعّال، فإن السنوات المقبلة قد تشهد تحوّل العاصمة الإماراتية إلى واحدة من أبرز العقد الاقتصادية العالمية التي تربط الشرق بالغرب ضمن معادلة تقوم على الشراكة، وعلى المصالح المتبادلة لا المصالح المؤقتة.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.