في أحد شوارع دبي، يمر سائق تاكسي تقليدي بجانب سيارة ذاتية القيادة من أسطول «كريم أوتو». ينظر إليها بتوجس: هل ستحلّ محله قريباً؟ وفي الرياض، مدير مالي في شركة تقليدية يُنهي تقريراً استغرق منه أسبوعاً، بينما يُنجزه زميله في بنك رقمي خلال دقائق باستخدام الذكاء الاصطناعي.
مشهدان عاديان للوهلة الأولى، لكنهما يجسّدان زلزالاً اقتصادياً صامتاً يُعيد تشكيل سوق العمل بوتيرة غير مسبوقة.. لسنا أمام سيناريو مستقبلي خيالي، بل في قلب التحوّل.
تقرير ماكينزي لعام 2024 يتوقع أن 47% من الوظائف في دول الخليج قابلة للأتمتة الجزئية أو الكاملة بحلول عام 2030. الأهم من النسبة هو طبيعة الوظائف المتأثرة: لم تعد الأتمتة تقتصر على المهام اليدوية، بل تمتد للمهن الرفيعة مثل القانون والطب والتحليل المالي وحتى الإعلام.
خذ مثلاً المحاماة: أداة «Harvey AI»، المعتمدة من قِبل أكبر مكاتب المحاماة في أميركا، تُنجز أكثر من 90% من مهام البحث القانوني بدقة تفوق المحامين البشر، بحسب دراسة من جامعة ستانفورد. أمّا في القطاع الطبي، فقد نشرت مجلة Nature نتائج تُظهر أن الخوارزميات تتفوق على الأطباء في تشخيص أمراض مثل السكري وسرطان الجلد بنسبة دقة تجاوزت 80%.
في القطاع المالي، أكدت PwC أن الذكاء الاصطناعي قد يُقصي 30% من وظائف التحليل المالي خلال خمس سنوات فقط. حتى في مجال الصحافة، أطلقت وكالة أسوشيتد برس خوارزمية تكتب تقارير مالية قصيرة خلال ثوانٍ دون تدخل بشري.
لمواجهة هذه الموجة، اقترح بيل غيتس فرض «ضريبة على الروبوتات» بنسبة 5% لتمويل دخل أساسي شامل (UBI)، يحمي المجتمعات من صدمة فقدان الوظائف.
في دول الخليج، حيث يشكّل التوطين هدفاً وطنياً مركزياً، تصبح المعادلة أكثر تعقيداً. بحسب دراسات حديثة، نحو 40% من الوظائف الحكومية -المفضلة لدى المواطنين- يمكن أتمتتها بالكامل خلال العقد القادم. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال أكثر من 70 ألف خريج سنوياً في الخليج يتخصصون في مجالات مهددة مثل المحاسبة والقانون وإدارة الأعمال، بينما لا يتجاوز عدد خريجي تخصصات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات 5,000 طالب سنوياً في مجمل المنطقة.
الفجوة المهارية تزداد اتساعاً. تقرير LinkedIn لعام 2024 يُظهر أن 82% من الشركات الخليجية تواجه صعوبة في توظيف كفاءات تمتلك مهارات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، أمّا استطلاع YouGov فقد كشف أن 45% من الشباب الخليجي لا يعتقدون أن شهاداتهم الجامعية مناسبة لسوق العمل الجديد.
رغم هذه التحديات كلها، فإن اللحظة الحالية تحمل فرصة تاريخية فريدة. تخيّل أن تُعيد دول الخليج رسم منظومتها الاقتصادية لتقود الثورة الصناعية الرابعة، لا لتلحق بها فقط. ولعل المؤشرات الإيجابية بدأت فعلياً. في الإمارات العربية المتحدة، مبادرة «مليون مبرمج عربي» أنتجت أكثر من 100 ألف فرصة عمل رقمية، ومكّنت «فيزا العامل الرقمي» التي أطلقتها الإمارات من استقطاب أكثر من 20 ألف محترف رقمي خلال عامين. وفي المملكة العربية السعودية، منصة «مهارات المستقبل» درّبت أكثر من 120 ألف شاب وشابة، و65% منهم التحقوا بوظائف خلال أقل من 6 أشهر، كما خصّصت السعودية أكثر من 200 مليون دولار لدعم الشركات الناشئة ورواد التقنية الشباب، فيما أطلقت البحرين "برنامج صانعي الذكاء الاصطناعي" لتدريب موظفي القطاع العام. وفي الخليج بشكلٍ عام، سجّلت شركات التكنولوجيا الناشئة في الخليج نمواً بنسبة 50% في 2023، بحسب تقرير MAGNiTT.
وما كان يُسمّى بالتعليم البديل أو «micro-credentials» أصبح الآن في قلب المشهد.. منصات مثل Coursera وUdacity دخلت في شراكات رسمية مع جامعات وهيئات خليجية لتقديم شهادات مهنية قصيرة في الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، والحوسبة السحابية.
لن يكون المستقبل في انتظار من يتردد.. أمام التحول الجذري في سوق العمل، لا تكفي الحلول الجزئية ولا التعديلات الخجولة. ما نحتاج إليه اليوم هو قفزة شجاعة في سياسات التعليم والعمل، مستلهمة من أفضل التجارب العالمية، وقادرة على تحويل القلق من الذكاء الاصطناعي إلى طاقة تغيير إيجابية.
في المملكة المتحدة، أُطلق برنامج وطني لإعادة تأهيل مئات الآلاف من العاملين وتزويدهم بمهارات تتماشى مع اقتصاد المستقبل. ألمانيا اعتمدت سياسة «العمل 4.0» لتأهيل مجتمعها المهني لعصر الصناعة الذكية. أمّا الولايات المتحدة فاستثمرت مئات الملايين لتدريب القوى العاملة على وظائف المستقبل مثل المركبات الكهربائية والروبوتات. هذه ليست تجارب هامشية، بل خططاً وطنية محورية تنفذها الحكومات بالتعاون مع القطاع الخاص لتغيير قواعد اللعبة.
من هذه التجارب، نتعلم أن الحل يبدأ من الاعتراف بأن الوظائف لا تختفي فجأة، بل تتحول. المحاسب اليوم يمكن أن يصبح «مدقق خوارزميات»، والممرض يمكن أن يصبح «مشغّل نظم ذكية للرعاية»، والمحامي قد يصبح خبيراً في عقود الذكاء الاصطناعي. لكن هذه التحولات لا تحدث تلقائياً، بل تحتاج إلى بنية تشريعية مرنة، ومؤسسات تعليمية تتبنى التدريب السريع، واعتماد رسمي للمهارات الجديدة، وشراكات واسعة مع المنصات العالمية.
في هذه اللحظة، الفرصة أمامنا لصياغة نموذج عربي فريد يعيد تعريف مفهوم العمل والتعليم، ويضع الإنسان في قلب التحول الرقمي.. لا نريد فقط أن نواكب الثورة الصناعية الرابعة، بل أن نكون من يقودها.
تقرير اليونسكو (2024) أشار إلى أن 82% من طلاب الجامعات في الخليج يدرسون تخصصات مرتبطة بالرقمنة، وهي النسبة الأعلى عالمياً. هذا الزخم، إن أُحسن استثماره، يمكن أن ينقل الخليج من موقع «المُتبِع» إلى موقع «الريادة».
ألمانيا قادت الثورة الصناعية الثانية، أميركا احتضنت الإنترنت، والآن.. الفرصة أمام الخليج لقيادة حقبة الذكاء الاصطناعي.
الاختيار ليس بين «وظيفة» أو «بطالة»، بل بين أن نكون صانعي التحوّل في عصر الذكاء الاصطناعي أو من ضحاياه.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.