مصانع الظلام.. كيف تُعيد الروبوتات والذكاء الاصطناعي تشكيل مستقبل التصنيع؟

مصانع الظلام.. كيف تُعيد الروبوتات والذكاء الاصطناعي تشكيل مستقبل التصنيع؟
د. يسار جرار clock

د. يسار جرار

أستاذ كلية هولت للأعمال، الولايات المتحدة والمدير التنفيذي لـ Gov Campus

مصانع تعمل دون وجود بشري، آلات روبوتية تُدير خطوط الإنتاج في ظلام دامس، وأنظمة ذكية تُراقب الجودة وتتخذ قرارات ذاتية. ما كان يُعتبر بالأمس خيالاً علمياً أصبح اليوم واقعاً فعلياً في بعضٍ من أكثر الدول تقدماً في مجال التصنيع.

يُعرف هذا النموذج الثوري باسم «مصانع الظلام» (Dark Factories)، وهي منشآت لا تحتاج إلى إضاءة أو تهوية أو حتى مرافق راحة، لأن لا أحد يعمل بداخلها سوى الخوارزميات والروبوتات.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

تعمل هذه المصانع على مدار الساعة دون توقف، مدفوعة بدمج تقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء الصناعي، والروبوتات التعاونية (Cobots)، وأنظمة التحليل الفوري للبيانات.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

في هذه البيئة الذكية، تُستَخدم أجهزة استشعار لمراقبة كل مرحلة من مراحل الإنتاج، وتعالج الخوارزميات هذه البيانات في الوقت الحقيقي لاتخاذ قرارات دقيقة تتعلق بالإنتاج والصيانة وضبط الجودة.

من الأمثلة البارزة على ذلك، مصنع شركة Midea الصينية، إحدى أكبر شركات الأجهزة المنزلية في العالم، الذي ينتج ملايين وحدات التكييف سنوياً بأقل تدخل بشري ممكن، بفضل بنية تحتية تعتمد بالكامل على الروبوتات وتقنيات 5G لربط الآلات.

كذلك، مصنع Changying Precision Technology في مدينة دونغوان، الذي استبدل أكثر من 90% من العمال البشر بروبوتات ذكية، ما أدّى إلى خفض عدد العاملين من 650 إلى 60 فقط، وزيادة الإنتاج بنسبة تفوق 250%.

هذه المصانع ليست فقط نموذجاً للتطور الصناعي، بل تشكّل نقلة نوعية في فلسفة الإنتاج ذاتها؛ من الاعتماد على العمل اليدوي والبشري، إلى نماذج إنتاج ذاتية تعمل بكفاءة عالية وبتكلفة تشغيل منخفضة، ما يُعيد رسم مشهد الصناعة عالمياً ويُثير تساؤلات مهمة حول مستقبل الوظائف والمهارات والتعليم في عصر ما بعد الأتمتة.

تشير التوقعات إلى أن الذكاء الاصطناعي سيُسهم بما يقارب 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، مع تأثير كبير في إنتاجية وكفاءة التصنيع، كما يُتوقع أن تتجاوز قيمة سوق التصنيع الذكي عالمياً تريليون دولار بحلول عام 2032، مقارنة بنحو 300 مليار دولار عام 2023.

هذه الأرقام تعكس حجم التحول الذي تشهده الصناعة بفضل التقنيات الحديثة. ووفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي، فمن المتوقع أن تحل الأتمتة محل 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025. لكن في المقابل، ستُخلق 97 مليون وظيفة جديدة في مجالات ناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، وصيانة الروبوتات، والعمليات الرقمية.

اليوم، هناك أكثر من 3.5 مليون روبوت صناعي قيد الاستخدام حول العالم، مع تركيز كبير في آسيا، وخاصة في الصين وكوريا الجنوبية واليابان، كما أن واحدة من كل شركتين تصنيع على مستوى العالم إما تستخدم بالفعل وإما تخطط لاستخدام الروبوتات والأتمتة خلال السنوات الثلاث القادمة.

الذكاء الاصطناعي.. محرك الإنتاجية والكفاءة

يستخدم اليوم 34% من المصنّعين بالفعل الذكاء الاصطناعي لتحسين سلاسل التوريد والصيانة التنبؤية ومراقبة الجودة.

وتشير الدراسات إلى أن الصيانة التنبؤية المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تقلل توقف الآلات غير المخطط له بنسبة تصل إلى 50%. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي أن يعزّزا الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 20% و25% من خلال أتمتة المهام وتحسين عمليات اتخاذ القرار.

أمّا شبكات الجيل الخامس فتُسمّى الآن العمود الفقري للمصانع الذكية، حيث تلعب دوراً محورياً في تمكين المصانع الذكية، حيث تقلّل زمن الاستجابة إلى 1 مللي ثانية فقط، ما يسمح بالاتصال الفوري بين الآلات.

هذا الأمر ضروري لتشغيل الروبوتات المستقلة والصيانة باستخدام الواقع المعزز والتحكم في العمليات في الوقت الفعلي.

ووفقاً لدراسة أجرتها مختبرات أريكسون، يعتقد 80% من المصنّعين أن تقنية 5G ستكون ضرورية لضمان القدرة التنافسية في المستقبل.

وأخيراً، فإن أكبر تأثير في مستقبل التصنيع قد يكون الطباعة ثلاثية ورباعية الأبعاد، حيث تتجه الصناعة نحو تبنّي تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد (3D Printing)، ويُتوقع أن يصل حجم السوق العالمية لهذه التقنية إلى 80 مليار دولار بحلول عام 2030 (Statista).

هذه التقنية توفّر 50% من الوقت في عمليات التصميم الأولي والتطوير مقارنة بالطرق التقليدية، أمّا الطباعة رباعية الأبعاد (4D Printing)، التي تستخدم موادَّ ذكية قادرة على التكيُّف مع الظروف البيئية، فمن المتوقع أن يتجاوز حجم سوقها 500 مليون دولار بحلول عام 2030، مدعومة بتطبيقات في قطاعات الطيران والدفاع والطب، بحسب توقعات مؤسسة ماركتس.

وبدأ عالم الصناعة الآن بمحاكاة المستقبل عن طريق التوأم الرقمي وإنترنت الأشياء، حيث أوضحت دراسة من مؤسسة جارتنر، أن 89% من المصنّعين يخططون لتنفيذ تقنيات التوأم الرقمي لمحاكاة وتحسين خطوط الإنتاج.

بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يتجاوز الإنفاق العالمي على إنترنت الأشياء الصناعي 200 مليار دولار بحلول عام 2025، مدفوعاً بالتحليلات التنبؤية، تتبع الأصول، والخدمات اللوجستية الذكية.

الاستعداد للمستقبل.. التعليم والمهارات الجديدة

مع هذه التحولات السريعة، يصبح تحديث التعليم وتطوير المهارات أمراً ضرورياً، ويجب أن تركّز المناهج التعليمية على أدوات الثورة الصناعية الرابعة، مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وتحليل البيانات، كما أن المهارات الناعمة، مثل التفكير النقدي والعمل الجماعي، أصبحت جزءاً أساسياً من الكفاءة المطلوبة في سوق العمل المستقبلي.

مستقبل التصنيع لا يتمحور فقط حول المصانع المظلمة والآلات الذكية، بل حول كيفية استغلال هذه التقنيات لتعزيز الإنتاجية والابتكار.

وبينما تسهم الروبوتات والذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الصناعة، يظل العنصر البشري هو المحور الرئيسي. القدرة على التكيُّف، والتعلم المستمر، والاستثمار في رأس المال البشري ستكون مفاتيح النجاح في هذا التحول الكبير.

المصانع قد تعمل في الظلام، لكن المستقبل يُضيء بفرصٍ لا حدودٍ لها لمَن يكون مستعداً.