وقف ابني البالغ تسع سنوات يحدّق في شاشة الآيباد، تساؤله ينطلق بريئاً ومدهشاً: "بابا، كيف تطير الطائرات؟". قبل أن ألتقط أنفاسي للإجابة، ظهر فيديو ثلاثي الأبعاد، وشرحٌ مبسّط بثلاث لغات، وتحليلٌ يحاكي قوانين الديناميكا الهوائية، نظرت إليه مبتسماً، لكنني في داخلي شعرت بقشعريرة: المستقبل لا ينتظرنا، بل يندفع نحونا بسرعة مذهلة.
منذ مئة عام، كانت الرحلة من الخليج إلى أوروبا تستغرق أسابيع وتُحكى كأنها ملحمة، اليوم، نشكو من تعب السبع ساعات بين دبي ولندن، لكن ماذا عن الغد؟ نحن ندخل حقبة تصبح فيها الثواني دهوراً.
في بنك المستقبل، ستُتخذ قرارات استثمارية بمليارات الدولارات في 0.0003 ثانية، بعد تحليل 82 مليون نقطة بيانات من أسواق الصين حتى تشيلي، في اللحظة التي يرفع فيها مدير الصندوق فنجان قهوته، تكون الصفقة قد أنجزت وربحت (أو خسرت) ملايين الدولارات.
في مستشفيات القاهرة أو جدة، ستشخص خوارزميات الأمراض النادرة، مثل سرطان البنكرياس، قبل أن يكمل المريض جملته عن الأعراض، اليوم، يتطلب ذلك في المتوسط 185 يوماً، في المستقبل: أقل من دقيقة.
وفي الرياض، حين تهب عاصفة رملية، سيصلك إشعار ينبهك: "أغلق النوافذ بعد 4 دقائق و17 ثانية"، الدقة لم تعد رفاهية، بل ضرورة.
ما يحرّك هذه السرعة الخرافية ليس الذكاء الاصطناعي التقليدي فقط، بل قفزة تُعرف بـ"الذكاء العام الاصطناعي" (AGI) — نظام رقمي قادر على التفكير والتعلّم وحل المشكلات بمرونة الإنسان نفسها، بل وأكثر.، يختلف AGI عن النماذج الحالية مثل ChatGPT، التي تجيد أداء مهام محددة بناءً على بيانات التدريب، لكنها لا تفهم السياق ولا تعمم المهارات، AGI، على العكس، يستطيع التكيف مع مهام جديدة دون تدريب مسبق، واتخاذ قرارات مستقلة، وتفسير النوايا، وحتى فهم المشاعر، سام ألتمان، رئيس شركة OpenAI، يقول إن ابنته البالغة ثلاث سنوات "ستشهد ولادة AGI قبل أن تدخل الجامعة".
وبينما يبدو هذا للبعض ضرباً من الخيال العلمي، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك: نحن نعيش بداياته بالفعل.
لنتأمل في بعض مشاهد من 2030 في منطقتنا، أي بعد 4 سنوات، في غرفة عمليات بمستشفى في جدة، يدخل مريض بجلطة دماغية، قبل أن تلامسه يد طبيب، يكون نظام "نبوءة" قد حلل آلاف الأشعة وقرر مسار العلاج، الوقت؟ 6.7 ثانية، في بورصة أبوظبي، خوارزمية "فينيق" تتنبأ بحركة أسعار النفط عبر تحليل 40,000 مصدر عالمي، وتنفيذ 10,000 صفقة خلال لمح البصر، النتيجة؟ أرباح يومية تتجاوز 92 مليون درهم، حتى في مزارع النخيل في القصيم، طائرات مسيرة بحجم نحلة تكتشف آفة في النخلة رقم 47، تحلل التربة والمناخ وتحقن العلاج المناسب. العملية كاملة تستغرق 3 دقائق، الإنتاج يرتفع بنسبة 40%.
في خضم هذا التحول العاصف، تسير الإمارات بخطى رائدة، من الذكاء الاصطناعي إلى الفضاء، تقود نموذجاً عالمياً في استباق المستقبل، قرار تعيين الذكاء الاصطناعي كعضو استشاري في مجالس إدارات الهيئات الاتحادية بدءاً من 2026 ليس قراراً رمزياً، بل ثورة في الحوكمة، اليوم، في دبي، يمكن لنظام "بُراق" أن يحاكي 15,000 سيناريو للزلازل والفيضانات خلال 47 ثانية، ويقترح تعديلات تصميم برج جديد لحماية آلاف السكان، في شركات مثل "مصدر"، لم يعد إعداد الجدوى الاقتصادية يستغرق ستة أشهر، بل ساعتين، بفضل خوارزميات توليد التنبؤات المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
هذه الطفرة تقف على ثورتين خفيتين، الأولى هي سرعة البيانات، في اليابان، تم الاعلان قبل أسبوع عن أنبوب ألياف زجاجية بسماكة الشعرة ينقل 1.02 بيتابايت في الثانية – أي يمكنه تحميل محتوى مكتبة الكونغرس الأميركية بالكامل 18 مرة في كل ثانية! أما الثانية فهي الحوسبة الكمومية، شريحة "ويّلو" من غوغل بقدرة 105 كيوبت، أنجزت في 5 دقائق ما كان سيستغرق 20 مليون سنة على أقوى حواسيب العالم الحالية، الصين أعلنت الردّ بشريحة 176 كيوبت. سباق تكنولوجي تحوّل إلى حرب باردة رقمية.
ونرى هذه التطبيقات تتوسع اليوم في كل القطاعات بسرعة تكاد تكون سحرية، نظام "ديڤين" Devyn، الذي تم إطلاقه مؤخراً، يمثل نقلة نوعية في تطوير البرمجيات، حيث يمكنه تصميم وبناء تطبيق كامل —من الواجهة إلى قاعدة البيانات إلى التكامل مع الأنظمة الأخرى— في أقل من خمس دقائق (4 دقائق و19 ثانية)، دون تدخل بشري واحد، ما كان يتطلب فرق تطوير، وأسابيع من العمل، واجتماعات لا تنتهي، أصبح يُنجز الآن في أقل من الوقت الذي نحتاجه لتحضير فنجان قهوة.
وفي القطاع الخاص، تشكل شركة Salesforce نموذجاً صارخاً على التحول الإنتاجي عبر الذكاء الاصطناعي، بعد تبني أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي على مستوى الشركة، أعلنت عن خفض عدد موظفيها بنسبة 50%، بينما ارتفعت الإنتاجية بنسبة تفوق 200%، بحسب تصريحات الرئيس التنفيذي مارك بينيوف، لم يعد الأمر مجرد استبدال الوظائف، بل إعادة تعريف مفاهيم العمل والفعالية.
أما في القطاع الحكومي، فشاهدنا خلال الشهور الأخيرة وزارات مثل وزارة العدل في إستونيا تطلق أنظمة قضائية مدعومة بالذكاء الاصطناعي لحل النزاعات البسيطة في دقائق، ووزارة الاقتصاد في سنغافورة تستخدم الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بتقلبات السوق وتوجيه قرارات السياسات التجارية، الحكومات الذكية لا تنتظر، بل تُعيد تصميم نفسها لتواكب زمن القرارات اللحظية.
الرسالة هنا واضحة: السرعة والكفاءة لم تعودا ميزتين، بل ضرورة وجودية، والجهات —عامة كانت أو خاصة— التي لا تتبنى هذا التحول، لن تتأخر فقط، بل ستُقصى من السباق.
لم يعد التسارع مفهوماً نظرياً كما لم يعد البطء خياراً، في عالم تُدار فيه الدول والمؤسسات والاقتصادات عبر قرارات أسرع من طرفة العين، من لا يمتلك عقلاً رقمياً سيكون عبئاً لا لاعباً.
الاستثمار سيتحوّل من "أيدٍ عاملة" إلى "عقول استراتيجية"، التعليم لن يركز على تخزين المعلومات بل على مرونة التفكير، الحكومات التي لا تنشئ "وزارات للسرعة والتوقع" ستُسحق أمام الزلازل الرقمية المقبلة.
في عصر السرعة القصوى، البطيء ليس مجرد متخلف.. بل مشروع انقراض.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.