الحرب التجارية.. هل تنجح الصين في حشد جنوب شرق آسيا ضد أميركا؟

الصين تهمس لجيرانها: هل تنجح في جرّ جنوب شرق آسيا لحربها التجارية مع أميركا؟ (شترستوك)
الصين تهمس لجيرانها: هل تنجح في جرّ جنوب شرق آسيا لحربها التجارية مع أميركا؟
الصين تهمس لجيرانها: هل تنجح في جرّ جنوب شرق آسيا لحربها التجارية مع أميركا؟ (شترستوك)

في ظل تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، تقف دول جنوب شرق آسيا على مفترق طرق حرج، بين الانحياز لبكين أو الحفاظ على حياد يتيح الاستفادة من كلا القوتين، في ممرات هانوي الضيقة وناطحات كوالالمبور، تنتشر همسات عن فرص وتحديات في الأفق.

شهدت الحرب التجارية تصعيداً كبيراً، إذ فرضت واشنطن تعريفات جمركية تفوق 145 في المئة على الواردات الصينية، شملت السيارات الكهربائية، الرقائق الإلكترونية، والمنتجات الطبية.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

وردّت بكين بزيادة الرسوم الانتقامية إلى 125 في المئة على السلع الأميركية، إلى جانب فرض رسوم بنسبة 20 في المئة على مادة الفنتانيل خلال شهري فبراير شباط ومارس آذار، مما سبّب اضطرابات في الأسواق العالمية ورفع أسعار الذهب باعتباره ملاذاً آمناً.

من جهتها، تتبنى الصين نهجاً أكثر هدوءاً وعمقاً، عبر إعادة تشكيل خريطة شراكاتها في آسيا لتحصين سلاسل الإمداد، وفي ظل الضغوط الأميركية لتطبيق سياسات إعادة توطين الصناعات (Re-shoring) أو نقلها إلى دول صديقة (Friend-shoring)، تجد بكين نفسها مضطرة لإعادة تقييم موقعها الاقتصادي والتكيف مع التغيرات العالمية.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

لماذا أصبحت منطقة جنوب شرق آسيا بؤرة اهتمام جديدة للصين؟

شهدت العلاقات التجارية بين رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وكل من الصين والولايات المتحدة تطورات ملحوظة خلال الفترة من 2017 إلى 2024. فعلى الرغم من تزايد الصادرات الآسيانية إلى كلا البلدين، إلا أن الميزان التجاري مع الصين ظل سالبًا، مما يعكس اعتمادًا متزايدًا على الواردات الصينية، في مقابل فائض تجاري واضح مع الولايات المتحدة.

فقد ارتفعت صادرات آسيان إلى الصين من نحو 235 مليار دولار عام 2017 إلى 396 مليار دولار في 2024، في حين ارتفعت الواردات من الصين من 281 مليار إلى أكثر من 586 مليار دولار خلال الفترة نفسها، ما أدى إلى عجز تجاري بلغ نحو 190 مليار دولار في 2024.

بالمقابل، نمت صادرات آسيان إلى الولايات المتحدة من 175 مليار دولار إلى 365 مليار دولار، بينما ظلت الواردات أقل بكثير، ما أدى إلى فائض تجاري بلغ نحو 240 مليار دولار.

ويظهر من البيانات أيضاً أن فيتنام وماليزيا وتايلاند كانت من أبرز الدول المساهمة في صادرات آسيان إلى الصين والولايات المتحدة، في حين كانت سنغافورة لاعباً أساسياً في التجارة الإقليمية، خاصة من حيث إعادة التصدير.

قد تكون فيتنام التي ارتفعت صادراتها إلى الصين بشكل كبير، أكثر عرضة للتأثير من الصين لدخول حرب تجارية ضد الولايات المتحدة، نقلت أكثر من 30 شركة أميركية بعض أو كل عملياتها من الصين إلى فيتنام منذ 2018، نتيجة الضغوط التجارية.

يمكن ماليزيا، إذ كان التبادل التجاري مع الصين مستقراً، أن تجد نفسها في وضع مشابه، استفادت ماليزيا سابقاً من تحويل التجارة في قطاع أشباه الموصلات، إذ زادت صادراتها إلى الولايات المتحدة، أما الدول مثل سنغافورة، فهي تمتلك اقتصاداً منفتحاً ومتعدد العلاقات التجارية، ما يجعلها أقل عرضة للضغط من الصين أو أميركا.

أما بالنسبة للفلبين وكمبوديا ولاوس قد تكون في موقف أكثر صعوبة، مع وجود تاريخ من العلاقات القوية مع الصين، لكن مع تباين في مواقفها تجاه أميركا، قد تكون هذه الدول مترددة في اتخاذ موقف حاسم، مع العلم بأن التبادل التجاري لهذه الدول مع أميركا والصين ضئيل.

أين تقف دول جنوب شرق آسيا؟

بينما تسعى الصين لتعزيز علاقاتها الإقليمية عبر مبادرة «الحزام والطريق»، تجد دول جنوب شرق آسيا نفسها مضطرة للحفاظ على توازن دقيق بين بكين وواشنطن، تستفيد فيتنام، على سبيل المثال، اقتصادياً من الصين لكنها تواجه حساسيات بسبب نزاعات بحر الصين الجنوبي، في وقت تعمل فيه الولايات المتحدة على تعميق علاقاتها مع هذه الدول، ما يزيد المشهد تعقيداً.

يظل بحر الصين الجنوبي بؤرة توتر جيوسياسي، إذ تصر الصين على سيادتها على معظم مناطقه استناداً إلى «خط القطاعات التسعة»، وهو ما ترفضه دول مثل الفلبين، فيتنام، ماليزيا، وبروناي، هذه المنطقة استراتيجية بامتياز، إذ تمر عبرها أكثر من 30 في المئة من التجارة البحرية العالمية، وتزخر باحتياطيات ضخمة من النفط والغاز.

تحاول الصين فرض سيطرتها الاقتصادية على موارد المنطقة من خلال شراكات حصرية مع شركاتها الوطنية، ما يحد من مشاركة الشركات الدولية، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاماً على بدء مفاوضات «مدونة قواعد السلوك» الخاصة بالمنطقة، لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي.

وفي مارس آذار 2025، أعلنت الصين عن الانتهاء من القراءة الثالثة للمدونة وأعربت عن أملها في التوصل إلى اتفاق قبل نهاية 2026، إلا أن الخلافات حول التنفيذ والنطاق ودور القُوى الخارجية لا تزال عائقاً كبيراً.

بحر الصين الجنوبي والتوترات الجيوسياسية
بحر الصين الجنوبي والتوترات الجيوسياسية (شترستوك)

تُراهن الصين في استراتيجيتها الإقليمية على تعزيز استثماراتها من خلال مبادرة الحزام والطريق، ما يخلق روابط اقتصادية عميقة تُصعّب على دول جنوب شرق آسيا الانحياز الكامل لواشنطن، كما تسعى بكين إلى تقديم نفسها كشريك أكثر تفهماً لأولويات هذه الدول، مقارنة بما تعتبره ضغوطاً سياسية أميركية.

نظرة للأمام.. هل تنجح بكين في إقناعهم أم ستواجه عزلة آسيوية؟

تشير التوقعات إلى أن دول جنوب شرق آسيا ستواصل سياسة الحياد الذكي، مستفيدة من التنافس بين الصين والولايات المتحدة لتعظيم مكاسبها الاقتصادية. ومع ذلك، في حال تصاعد التوترات وتحول النظام التجاري العالمي إلى منظومتين منفصلتين، قد تُجبر هذه الدول على اتخاذ مواقف أكثر تحديداً، ما قد يؤدي إلى خسائر اقتصادية تقدر بتريليونات الدولارات على مدى عقد من الزمن، وفقاً لمحاكاة من صندوق النقد الدولي.

تتبنى دول جنوب شرق آسيا نهجاً حذراً في ظل التنافس الصيني–الأميركي. تمثل فيتنام نموذجاً لهذا التوازن، إذ تستفيد من استثمارات الصين في البنية التحتية، مثل مشروع سكة حديد بقيمة 8 مليارات دولار، بينما تحافظ على علاقات تجارية قوية مع الولايات المتحدة، أكبر أسواق صادراتها، شهدت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى هانوي في أبريل نيسان 2025 توقيع نحو40 اتفاقية تعاون، في محاولة لتعزيز العلاقات الاقتصادية الثنائية.

أما إندونيسيا، فتنتهج سياسة «الحياد النشط»، مستفيدة من المشاريع الصينية ومستمرة في تعزيز شراكاتها العسكرية مع روسيا، ما يعكس رغبتها في تنويع علاقاتها الاستراتيجية، ماليزيا وتايلاند كذلك تسعيان للاستفادة من التنافس بين القوتين من خلال علاقات اقتصادية مزدوجة؛ إذ تقدم الصين التمويل والبنية التحتية، بينما توفر الولايات المتحدة التكنولوجيا وسوقاً استهلاكية ضخمة.

الفلبين، من جانبها، تُظهر ميلاً واضحاً نحو واشنطن، خاصة مع التوترات في بحر الصين الجنوبي، إذ وقّعت اتفاقيات دفاعية مع الولايات المتحدة واليابان، إلا أنها لا تزال تحافظ على روابط اقتصادية قوية مع بكين، رغم التدريبات العسكرية الأميركية الأخيرة قرب المياه المتنازع عليها.

أصبحت المنطقة محورية في إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي، مع اعتماد دول آسيان نهج «الانفتاح الانتقائي» عبر جذب الاستثمارات الصينية والإبقاء على التجارة مع الولايات المتحدة.

وفي ظل هذا الواقع، يبقى التساؤل مطروحاً... هل تستطيع دول جنوب شرق آسيا مواصلة الحياد الذكي، أم أنها ستُجبر على اختيار أحد المعسكرين؟ لعل الحكمة الآسيوية القديمة تعبّر عن الموقف بدقة «الرياح العاتية لا تكسر الشجرة المنحنية... بل تلك المتجمدة في مكانها»، فالدول التي تتقن فن الانحناء دون الانكسار قد تكون هي الرابح الأكبر في هذا الصراع طويل الأمد.