جنون «الصندوق الغامض».. لعبة أطفال أم قمار مقنّع؟

جنون «الصندوق الغامض».. لعبة أطفال أم قمار مقنّع؟ (شترستوك)
جنون «الصندوق الغامض».. لعبة أطفال أم قمار مقنّع؟
جنون «الصندوق الغامض».. لعبة أطفال أم قمار مقنّع؟ (شترستوك)

بدأت فكرة «الصناديق الغامضة» من آلات الـ«غاشابون» اليابانية في الستينيات، لتصبح ظاهرة ثقافية في شرق آسيا.. وفي العقد الأخير، قادتها شركات صينية مثل «بوب مارت» إلى السوق العالمي بأسلوب تسويقي جديد يعتمد على الغموض والإثارة، مستهدفة جيل زد والمراهقين والبالغين على حد سواء، لتتحول إلى صناعة قيمتها مليارات الدولارات.

في وقت يتسابق فيه المستهلكون من مختلف الأعمار على فتح صناديق ألعاب صغيرة لا يعرفون ما بداخلها، تطرح ظاهرة «الصناديق الغامضة» تساؤلات أعمق مما تبدو عليه؛ هل نحن أمام طفرة تسويقية ذكية تستثمر في الحنين والمفاجأة؟ أم أمام موجة جديدة من الاستهلاك القهري بآليات تشبه المقامرة؟

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

تعتبر «بوب مارت» الصينية، التي تأسست عام 2010، واحدة من أبرز اللاعبين في هذا السوق.. تنتج شخصيات كرتونية بتصاميم فنية تُباع داخل صناديق مغلقة دون معرفة محتواها مسبقاً، بعض هذه الشخصيات نادرة للغاية، وتظهر واحدة فقط من بين كل 144 صندوقاً، ما يخلق شعوراً بالندرة ويدفع المستهلكين للشراء مراراً وتكراراً.

لم يعد الانتشار الواسع لهذه الألعاب محصوراً في آسيا، ففي أكتوبر تشرين الأول 2024، افتتحت «بوب مارت» أول متجر لها في وسط أميركا داخل شارع «ماجنيفيسنت مايل» في شيكاغو، واللافت أن المستهلكين لا يأتون فقط لشراء الألعاب، بل يشاركون أيضاً في مشهد ثقافي جديد، يظهر في فيديوهات «فتح الصناديق» المنتشرة عبر تيك توك ويوتيوب، والتي تحصد ملايين المشاهدات.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

سجلت شركة بوب مارت  إيرادات بلغت 13  مليار يوان، (نحو 18 مليار دولار أميركي)، في عام 2024  بزيادة قدرها 106.9  في المئة مقارنة بالعام السابق، كما ارتفعت أرباحها الصافية بنسبة 185.9 في المئة  لتصل إلى 3.4 مليار يوان.

وتتوقع الشركة أن تصل إيراداتها إلى 20 مليار يوان (نحو 2.75  مليار دولار أميركي) في عام 2025 مع تجاوز الإيرادات من الأسواق الخارجية 10 مليارات يوان.

لكن خلف هذه الظاهرة الشعبية يكمن جانب نفسي واقتصادي مقلق، إذ تعتمد هذه الألعاب على ما يُعرف في علم النفس بـ«التعزيز بنسب متغيرة»، وهو نفس المبدأ المستخدم في ماكينات القمار، إذ يكون الربح غير متوقع، ما يجعل التجربة أكثر إدماناً.

تظهر الأبحاث أن الدوبامين، المادة الكيميائية المسؤولة عن الشعور بالمكافأة، لا يرتفع فقط عند الفوز أو الحصول على اللعبة المطلوبة، بل يبدأ بالارتفاع لحظة توقع المفاجأة، أي عند فتح الصندوق.. وهذا ما يجعل الكثيرين يشعرون بالحماس لمجرد محاولة الشراء، بغض النظر عن النتيجة.

تتعقّد المشكلة عند الأطفال والمراهقين، إذ يتزايد خطر الاعتياد على سلوكيات الشراء القهري تحت تأثير المفاجأة والرغبة في استكمال المجموعة.

ويزداد الضغط النفسي حين يشاهد الأطفال أصدقاءهم أو المؤثرين عبر الإنترنت يحصلون على القطع النادرة، ما يخلق بيئة تسويقية مغلقة يصعب الخروج منها.

تعتمد صناديق المفاجآت على مبدأ "التعزيز المتغير النسبة"، وهو نفس المبدأ الذي يجعل ماكينات القمار مغرية؛ عدم اليقين بشأن ما تحتويه الصندوق يدفع المستهلكين للشراء المتكرر، خاصة عندما يتم الترويج لبعض الشخصيات على أنها "نادرة" أو "سرية".. هذا الأسلوب التسويقي، المدعوم بمقاطع الفيديو على منصات مثل تيك توك  TikTok و يوتيوب YouTube، يعزز جاذبية هذه المنتجات.

اقتصادياً، قُدرت قيمة سوق ألعاب الصناديق الغامضة بمليارات الدولارات، بدعم من ثقافة «التجميع» و«الندرة»، ما خلق سوقاً موازية لإعادة البيع إذ تُباع الشخصيات النادرة بأسعار تصل إلى مئات الدولارات.

لكنها بالمقابل تثير جدلاً بيئياً أيضاً، بسبب كثافة استخدام البلاستيك في التغليف والإنتاج، ما يجعلها من أكثر المنتجات إسهاماً في نفايات الألعاب غير القابلة لإعادة التدوير.

ويحذّر خبراء في علم النفس والاقتصاد السلوكي من أن هذه المنتجات قد تكون الخطوة التالية بعد صناديق «اللوت بوكس» في ألعاب الفيديو، والتي بدأت بالفعل تُنظم كأنشطة مقامرة في دول مثل بلجيكا وهولندا.. فهل تكون الصناديق الغامضة الخطوة القادمة في تشديد الرقابة على التسويق الموجّه للأطفال؟

رغم أن هذه الألعاب تقدم متعة مؤقتة وفرصة للتعبير عن الذات وجمع التحف الصغيرة، فإن النموذج التسويقي المعتمد على المفاجأة والندرة يثير تساؤلات أخلاقية واقتصادية واجتماعية في آنٍ واحد.

في النهاية، يبدو أن السؤال الأهم ليس «ما الذي بداخل الصندوق؟» بل «لماذا نشتريه أصلاً؟».