تحولات جذرية تشهدها الصناعة المصرفية حول العالم بسبب التطور التكنولوجي وشركات التكنولوجيا المالية، التي يبدو أنها ترسم معالم جديدة لهذه الصناعة.
بدت شركات التكنولوجيا المالية في بدايتها كعنصر مكمل للخدمات المصرفية التقليدية، إلا أن المشهد الحالي ينبئ بمنافسة مقبلة بدأت ملامحها تلوح في الأفق، لا سيما أنه من المتوقع أن يصل عدد مستخدمي البنوك الرقمية إلى 394 مليون عميل.
واستناداً لتقرير موردور انتليجنس، فإن سوق البنوك الرقمية المبتكرة أو Neobank مقدرة بأن تصل قيمتها لنحو 330 مليار دولار بحلول عام 2026 بنسبة نمو سنوي مركب يناهز 50.6%.
إعادة تشكيل القطاع المصرفي
وتعتمد شركات التكنولوجيا المالية على تقديم الخدمات المالية، كفتح حساب وإجراء التحويلات والحصول على القروض وبطاقات الائتمان، اعتماداً كاملاً على الإنترنت والتطبيقات الذكية، الأمر الذي يؤدي إلى تقليل التكاليف التشغيلية وتقديم خدماتها بأسعار ورسوم أقل وبالتالي زيادة قاعدة عملائها.
هذا فضلاً عن السرعة والمرونة والشمولية المالية وتحسين تجربة العميل بفضل البنية التحتية الرقمية التي تحفز التكامل مع التقنيات الحديثة كالبلوك تشين والعملات المشفرة من جهة، والابتكار في المنتجات المالية من جهة أخرى، كون تجربتها تقوم على تحليل البيانات الضخمة ومعرفة أنماط وسلوكيات واحتياجات العملاء.
وخلال العامين الأخيرين أظهرت نتائج عمالقة التكنولوجيا المالية مثل ريفولوت Revolut ونوبنك Nubank، بالاستناد إلى عدد المستخدمين والإيرادات والأرباح والتوسعات في الأسواق، تجسيداً واضحاً لتغيير معالم الصناعة البنكية المستقبلية.
حتى اليوم، ووفق إحصاءات ستاتيستا، يتصدر وي بنك الصيني المصارف الرقمية من حيث عدد المستخدمين الذي ناهز 362 مليون عميل في عام 2022.
ويأتي البنك الياباني راكوتن في المرتبة الثانية بعدد مستخدمين وصل إلى 136 مليون عميل، ومؤخراً أعلنت المصارف الرقمية كريفولوت Revolut ونوبنك Nubank رغبتها بدخول أسواق الشرق الأوسط، سواء مباشرة أو عبر شراكات استراتيجية.
ريفولوت ونوبنك
تأسس Nubank في البرازيل في عام 2013، وسرعان ما أصبح أكبر بنك رقمي في أميركا اللاتينية وإحدى الشركات الناشئة الأكثر قيمة في العالم.
اعتمدت استراتيجيته الأولى في تقديم تجربة مصرفية رقمية خالية من الرسوم، التي سرعان ما أكسبته شعبية كبيرة في الأسواق التي تعاني أصلاً ضعفاً وتكلفة في الخدمات المصرفية التقليدية.
أصبح لدى البنك أكثر من 105 ملايين عميل عبر البرازيل والمكسيك وكولومبيا، ما عزز موقعها كلاعب رئيسي في النظام المالي بأميركا اللاتينية.
وتظهر النتائج المالية نصف السنوية للعام الحالي للمصرف تحقيق نمو لافت في الإيرادات التي بلغت 2.8 مليار دولار، وصافي أرباح لامس 487 مليون دولار، ومع ذلك لا يزال تحقيق الأرباح يمثل تحدياً، حيث تواصل الشركة التركيز على اكتساب العملاء والتوسع الجغرافي، ورغم ذلك حققت الشركة نقطة تحول مهمة في أواخر عام 2023، عندما أعلنت عن أول ربح ربع سنوي، ما يؤكد جدوى نموذج أعمالها على المدى الطويل.
في ما يتعلق بالتطبيق، يظل تطبيق نوبنك من بين التطبيقات المالية الأكثر تحميلاً في أميركا اللاتينية، حيث تجاوز عدد التحميلات 100 مليون بحلول عام 2024.
وسمحت الاستراتيجية القائمة على الرقمنة للبنك بالنمو السريع، مع استخدام الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لتقديم منتجات شخصية مثل القروض وخدمات الاستثمار التي تتناسب مع الأسواق المحلية.
حقق ريفولوت منذ تأسيسه في المملكة المتحدة في عام 2015 مسار نمو مشابهاً، مع أن بصمته كانت عالمية منذ البداية بسبب اعتماد استراتيجيته الأولية على تقديم خدمات الصرف الأجنبي، ثم توسعت لتصبح منصة مالية شاملة تقدم كل شيء من الخدمات المصرفية إلى تداول العملات المشفرة.
ولم ينل ريفولوت ترخيصه كمصرف من قبل المنظمين البريطانيين إلا في يوليو 2024، وهو بصدد التحضر لإطلاق عملة مستقرة على غرار منافسيها باي بال وريبل، المنتظر أن يكون مدعوماً بأصول حقيقية كالسندات السيادية موفراً الاستقرار على غرار تيثر وسيركل.
ووصل عدد عملاء المصرف أكثر من 45 مليون عميل حول العالم في حزيران 2024، مع وجود قوي في أوروبا والمملكة المتحدة، وتوجد الشركة اليوم في أكثر من 38 دولة بإيرادات وصلت لنحو 2.2 مليار دولار في عام 2023، أي بزيادة 95 بالمئة مقارنة بالعام 2022، وفق التقرير السنوي للبنك.
كما نجح المصرف في عام 2023 في الوصول إلى الربحية لعامه الثالث على التوالي، كما صرح الرئيس التنفيذي ومؤسس التطبيق نيك ستورونسكي، وتواصل الشركة الاستثمار بكثافة في تطوير المنتجات والتوسع في الأسواق.
ويبقى تطبيق ريفولوت الأكثر تحميلاً في أوروبا، ووصل عدد التحميل العالمي للتطبيق إلى أكثر من 50 مليون تحميل على مستوى العالم، ما يعكس جاذبيته المتزايدة بين الشباب الذين يعتمدون على التكنولوجيا وتنوع الخدمات وشموليتها بفضل استراتيجيته كتطبيق شامل “Super-App”، حيث يمكن للعملاء إدارة كل شيء من المعاملات اليومية إلى الاستثمارات عالية المخاطر في منصة واحدة، كانت قيمة مضافة ميزتها عن باقي البنوك التقليدية والبنوك الرقمية الأخرى.
التوسع الأفقي
يوجه المصرفان أنظارهما اليوم نحو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باعتبارها الفرصة التالية للتوسع بفضل سكانها الشباب والرؤية التكنولوجية للدول وارتفاع الطلب على الخدمات المالية الرقمية، ورغم هيمنة البنوك التقليدية، فإن انتشار الهواتف الذكية والمبادرات الحكومية لدعم الابتكار في التكنولوجيا المالية يجعل المنطقة جاهزة للتغيير.
بالنسبة لنوبنك، تركز استراتيجيتها على تكرار نجاحها في أميركا اللاتينية، حيث أصبح رائداً في مجال الشمول المالي، ومن المرجح أن يستهدف البنك الفئات التي لا تمتلك حسابات مصرفية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عبر تقديم حسابات رقمية ومنتجات مالية منخفضة التكلفة للأفراد الذين يفتقرون إلى الوصول إلى الخدمات المصرفية التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، قد تستكشف نوبنك الشراكات مع المؤسسات المالية المحلية للتغلب على التحديات التنظيمية وتسريع دخولها إلى السوق.
أما ريفولوت فقد كانت أكثر عدوانية في توسعها العالمي، حيث تخدم اليوم نحو 38 دولة، وهي في مرحلة الترخيص لدخول أسواق الإمارات، وتعتمد استراتيجيتها على استغلال مجموعة منتجاتها المتنوعة، خاصة في مجال العملات المشفرة والاستثمار، لجذب المستهلكين الأثرياء والمتنقلين عالمياً في الخليج، كما ركزت ريفولوت على توطين تطبيقاتها وخدماتها لتتناسب مع المتطلبات التنظيمية والثقافية في المنطقة، ما يمهد الطريق أمامها لتكون منصة مالية متميزة.
ويبقى الرهان الأساسي بالنسبة للبنوك الرقمية على مدى قدرتها على الحفاظ على هذا الزخم وإثبات الربحية في السنوات القادمة.