يواجه رأس المال البشري في الهند أزمات متتالية، وعلى الرغم من تفوق الهند على الصين في عدد سكانها، فإن اقتصادها الخامس عالمياً أصبح مهدداً مع تفاقم أزمات سوق العمل أمام الشباب الهندي.
ولعل قصة المواطن الهندي راجو راي البالغ من العمر 32 عاماً نموذج لهذا التهديد، فهذا الشاب قام بالرد على إعلان وظيفة عبر «فيسبوك» لأحد مستشاري المبيعات في تايلاند.
لم يكن راي راضياً عن راتبه المنخفض في إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات في مدينة فاراناسي شمال الهند، لذلك قرر السفر على متن أول رحلة إلى بانكوك، حتى يتمكن من جني قوت يومه بالدولار، وإرسال الأموال إلى ذويه في الوطن.
لكن الأمور لم تسر حسب الخطة، بعد وصوله، إذ التقى راي بعض السكان المحليين الذين يمثلون العمل الجديد، ليُؤخذ في رحلة لمدة ثماني ساعات إلى ضفة نهر، ليضعوه على متن قارب يعبر الحدود إلى ميانمار.
وأخيراً انتهى به المطاف في مجمع يضم عشرات المباني السكنية والمكاتب، حيث كان يعيش ويعمل آلاف الهنود.
في غضون أيام، أدرك أنه كان محاصراً في شبكة عصابات جرائم الإنترنت، إذ احتالوا على بعض الأجانب لتحويل مدخراتهم إلى عملات مشفرة، وبينما عملوا على حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي، واجه راي وزملاؤه كل أنواع الإذلال.
تمكن راي من نشر مكالمة إنقاذ عبر «تويتر» ناشد فيها السلطات الهندية، وسفارة بلاده في ميانمار التدخل لإنقاذه.
خلال أسابيع، نجا راي مع عشرات من عمال الرهائن الهنود الآخرين من هذا المجمع.
على الرغم من تلك الحياة القاسية وظروف العمل غير المشروعة، فإن معظم رفاق راي فضّلوا البقاء للعمل القسري والتعرض للعنف الجسدي، مقابل عشرات الآلاف من الدولارات شهرياً، وفقاً لما قاله راي.
شبح البطالة
لقد أدى الفائض من الشباب الهنود العاطلين عن العمل إلى خلق مجموعة ضخمة من العمالة الماهرة التي يمكن لأي شخص يدير عملية احتيال أن يسعى للاستفادة منها.
مع تجاوز عدد سكان الهند نظيرتها الصين هذا العام، فإن الطموحات غير المحققة لشبابها الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاماً، ويمثلون أكثر من نصف عدد السكان البالغ 1.4 مليار نسمة، يمكن أن تثقل كاهل العالم الأوسع إذا تُركت دون إيجاد حلول.
يكافح العديد من جيل الألفية الهندي للعثور على وظيفة، على عكس الصين، التي استفادت من مميزاتها الديموغرافية من خلال توظيف المصانع على نطاق واسع، فإن النمو الاقتصادي في الهند لا يعتمد على العمال الشباب الذين يصنعون السلع.
إن البدائل التي يحاول شباب الهند في سن العمل استكشافها سوف تحدد اتجاه مستقبل العمل على مستوى العالم، في ظل وجود عدد كبير من الشباب الذين يتمتعون بالطموح والذكاء التكنولوجي، وتقلص سوق العمل.
إعادة التفكير في اقتصاد الوظائف المؤقتة
بينما تتوسع سوق الهند للوظائف المشروعة في قطاع التكنولوجيا، يشكو القائمون على التوظيف من نقص المواهب الذي يعود إلى نقص التعليم والتدريب على المهارات ذات الصلة خارج حرم جامعات النخبة.
توظف صناعة تكنولوجيا المعلومات حالياً نحو 5.1 مليون شخص، يمكن أن تستوعب جزءاً بسيطاً من نحو 4.75 مليون هندي يدخلون القوى العاملة سنوياً.
لتلبية احتياجات سوق يضم 750 مليون مستخدم للهواتف الذكية، يجذب اقتصاد الوظائف المؤقتة سريع النمو في الهند العمال الشباب بأعداد كبيرة.
من الناحية النظرية، يوفر هذا النظام مزيجاً فريداً من العمل المنتظم، ولكن عملياً، هناك إما القليل من العمل أو الكثير منه، مع توفير عمولة هامشية فقط، فضلاً عن تراكم حوادث سوء المعاملة والاستغلال، ما جعل العديد من العاملين في الوظائف المؤقتة في الهند يشككون في اختيارهم المهني.
وحش مواقع التواصل الاجتماعي
يشكل الهنود أكبر قاعدة مستخدمين لبعض أكبر منصات التكنولوجيا في العالم، بما في ذلك «يوتيوب»، و«واتساب»، و«إنستغرام».
مع وجود الملايين من الهنود على مواقع التواصل الاجتماعي، تؤثر أنماط استخدامهم لها على الشكل الذي ستبدو عليه المنصات في المستقبل، والرائج حول الهند في هذه المواقع يتمثل في المزيد من مقاطع الفيديو التي تهتم بمشكلة انخفاض معدل معرفة القراءة والكتابة، إضافة إلى ظهور المؤثرين المحليين.
قد يرغب أباطرة التكنولوجيا في العالم، في دراسة سلوك المستخدمين الهنود لإعداد أنفسهم للطوارئ الأكثر قتامة، فالمعلومات المضللة وخطابات الكراهية أصبحت سمة أساسية بين جيل الشباب الهندي.
في الآونة الأخيرة، تمتع شاب هندي يبلغ 28 عاماً، بشعبية واسعة، وحصل على الزر الفضي من «يوتيوب»، لكنه اشتهر بخطاباته التي تحث على الكراهية.
بعد إثبات الأمر، قال «يوتيوب» إنه أزال قناته، ولا يمكنه التربح منها بعد الآن، كما تجرد من العلامة الزرقاء على «إنستغرام»، لكن هذه الخطوة جاءت بعد فوات الأوان.
على الرغم من تحذيرات جماعات حقوق الإنسان، فإن شركات مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن راغبة في الاستغناء عن قاعدة مستخدميها الرئيسية في الهند، لذلك لم تفعل شيئاً يذكر لمواجهة الكراهية المنتشرة على منصاتها بلغات متعددة.
رداً على تحقيق أجرته صحيفة «نيويورك تايمز»، قال متحدث باسم «فيسبوك» سابقاً إن الشركة استثمرت بشكل كبير في التكنولوجيا للعثور على خطاب الكراهية بلغات مختلفة، بما في ذلك الهندية والبنغالية، وكانت ملتزمة بتحديث سياساتها مع تطور خطاب الكراهية عبر الإنترنت.
نظراً لافتقار هذه المنصات الاجتماعية إلى الحافز لاتخاذ إجراءات صارمة، يمكن بسهولة تكرار ما يحدث في الهند اليوم في أي مكان آخر مع وجود إنترنت وشباب يعيشون في عالم لا يخلق لهم وظائف هادفة، فلا أحد في مأمن من التعرض للخداع أو الاضطهاد.
تهديدات اقتصادية
ترتفع معدلات البطالة بين الشباب في البلاد بشكل حاد، وهو تطور يهدد بتقويض الاقتصاد الهندي في اللحظة التي كان من المتوقع أن ينطلق فيها بالفعل.
يخشى الاقتصاديون من أنه لن يكون هناك عدد كافٍ من العمال لتعويض العدد المتزايد من كبار السن في الهند، القلق من أنه لا توجد وظائف كافية لدعم العدد المتزايد من العمال.
كما تظهر بيانات البنك الدولي أن مستوى مشاركة المرأة في القوى العاملة بلغ 19 في المئة فقط في عام 2021؛ وهذا أقل من نصف معدل مشاركة القوى العاملة الإجمالي البالغ 46 في المئة، ما يجعله أحد أدنى المعدلات في آسيا.
هل من سبل للنجاة؟
تتقدم الهند في جداول الترتيب الاقتصادي العالمي؛ فاقتصادها الذي يبلغ نحو 3.5 تريليون دولار هو الآن خامس أكبر اقتصاد في العالم ومن بين الأسرع نمواً.
أظهرت بيانات حكومية، مؤخراً، أن النمو الاقتصادي في الهندي تسارع إلى 6.1 في المئة خلال مارس آذار، مدعوماً بإنفاق رأس المال الحكومي والخاص حتى مع استمرار تباطؤ الاستهلاك الخاص.
وكان البنك الدولي قد توقع أن تتفوق الهند في الأداء على جميع الاقتصادات الرئيسية الأخرى بنمو 6.6 في المئة، مقارنة بنحو 4.3 في المئة للصين، و0.5 في المئة فقط للولايات المتحدة، وتشير بعض التوقعات إلى إمكانية وصول ناتجها المحلي إلى نحو 10 تريليونات دولار بحلول عام 2035.
يقول الاقتصاديون إن الهند لديها خيارات مختلفة لمعالجة هذه المشكلات الديموغرافية، من بينها تطوير قطاع تصنيعي قادر على المنافسة عالمياً وكثيف العمالة، الذي كان يمثل أقل من 15 في المئة من العمالة في عام 2021، لكن مثل هذه الإصلاحات على المستوى الكلي لن تفعل الكثير لمساعدة أولئك الذين يكافحون الآن.
كما يمكن لتحقيق التوازن الصحيح لخلق وظائف جيدة كافية تدعم عمل المرأة، أن تشكل سبيلاً مهماً للنجاة، لكنها تتطلب السرعة في اتخاذ القرار، وإلا فإن الهند تهدر الإمكانات الهائلة للقوى العاملة، وبذلك تكون خاطرت بتبديد الميزة الكبيرة المتمثلة في تعدادها السكاني الأكبر عالمياً، فضلاً عن أكبر حصة في العالم من رأس المال البشري في سن العمل.