بدأت الثورة الرقمية عام 2000 من إستونيا، وهي دولة صغيرة في شمال شرق أوروبا، حيث أعلنت أن الإنترنت حق أساسي من حقوق الإنسان، ما أسهم في تحولها إلى واحدة من أكثر المجتمعات المتطورة تقنياً في العالم، وأصبح سكانها، البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة، اليوم يعيشون في مجتمع رقمي بالكامل لا يذهبون فيه إلى المكاتب الحكومية بشكل شخصي إلّا في حالات الزواج أو الطلاق أو الصفقات العقارية.
أثمرت المبادرات الرقمية المبتكرة في الدولة عن تسهيل العمليات الإدارية والحد من البيروقراطية وجذب الاستثمارات الأجنبية، ونتيجة لذلك شهدت هذه الدولة التابعة لدول البلطيق نمواً كبيراً في الاقتصاد الرقمي وأصبحت مركزاً للشركات التقنية والخاصة، التي تزيد قيمتها على مليار دولار للشركة الواحدة، أكثر من أي دولة صغيرة في العالم.
وتسير إستونيا في طريقها لتحقيق الإنتاجية والكفاءة والابتكار وسهولة العيش المطلقة في عالم يشهد رقمنة البيروقراطية وتبسيطها وتسهيلها، حيث تعكس هذه الرحلة مسيرة الدولة المميزة في التطور الرقمي إلى جانب كونها نموذجاً حياً لمختلف دول العالم، لا سيما الدول التي تعتمد منهجية التسارع الرقمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتسير نحو تحقيق إنجازات مماثلة.
وتواجه بعض هذه الدول، بما فيها دولة الإمارات، تحدياً أساسياً في ترجمة التحول الرقمي إلى نمو اقتصادي على الرغم من الانتشار الكبير للإنترنت ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
التكنولوجيا جزء واحد من عملية التحول الرقمي
لم يعد استهلاك الأدوات الرقمية كافياً بالنسبة لدول العالم في الوقت الراهن، حيث يجب عليها توفير التكنولوجيا ورأس المال البشري لتعزيز الفوائد الاقتصادية والاجتماعية، وقد حظيت التكنولوجيا بتقبل واسع من جانب المستهلكين في الشرق الأوسط، لذلك بات التحدي اليوم في طريقة دمج الرقمنة في جميع قطاعات المجتمع، بما فيها قطاع الأعمال والقطاع الحكومي.
ولن نتمكن من الاستفادة من كامل إمكانات التحول الرقمي وتعزيزها لتحقيق النمو الاقتصادي ما لم نركّز على تمكين الاقتصاد الرقمي الفعّال مع العاملين والشركات والمبتكرين والحكومات ضمن المنظومة الرقمية بدلاً من التركيز على الانتشار الرقمي البسيط.
ويمكن دعم النمو الاقتصادي في حال أرادت الدول الوصول إلى مراحل تتجاوز الاعتماد الرقمي، ونمتلك اليوم ما يكفي من الأدلة على عدم كفاية التكنولوجيا وحدها لبناء اقتصاد رقمي، وإنما هي جزء واحد من مسيرة التحول الرقمي. ومن الضروري معالجة مجموعة من القضايا، مثل الفجوة الرقمية ومخاطر الأمن السيبراني والأطر التنظيمية، لتحقيق أقصى استفادة من التحول الرقمي.
الشمولية والمساواة محاور أساسية في عملية التحول الرقمي
أشارت دراسة حديثة أجرتها «رولاند برجر» لمتابعة مستويات الشمولية الرقمية ومدى توافقها مع حالات انعدام المساواة الاجتماعية والرقمية، إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا متراجعة بفارق بسيط عن المتوسط العالمي في جميع عناصر الشمولية الرقمية الأربعة، وهي الوصول إلى المعدات الرقمية والقدرة على تحمل تكاليف الوصول الرقمي والقدرة على فهم الأدوات الرقمية، فضلاً عن العمليات والإجراءات المتبعة لاعتماد حياة رقمية، حيث قارنت الدراسة بين 80 دولة في مختلف أنحاء العالم.
أدّى التوجه المتسارع لمشاريع التحول الرقمي في المنطقة والسعي إلى إحداث تغيير إيجابي وتحقيق النمو الاقتصادي، إلى توسيع الفجوة بشكل غير محسوب بين من تتوفر لديهم إمكانية الوصول إلى الموارد الرقمية والذين لا تتوفر لديهم تلك الإمكانية، كما اتسعت الفجوة بين سكان المناطق الحضرية والريفية، ما نتج عنه نقص حاد في الخدمات لدى المجتمعات الريفية والنائية، نظراً لتركيز البنية التحتية الرقمية والاستثمارات على المناطق الحضرية فقط.
ويتطلب ردم تلك الفجوة الرقمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اعتماد منهجية متعددة الأوجه تركّز على تحسين البنية التحتية وخفض التكاليف، بالإضافة إلى تفعيل برامج محو الأمية الرقمية والسياسات الشاملة بشكلٍ أكبر.
ولا يمكن إحداث التغيير دون الاعتماد على المواهب البشرية، لذلك فإن المهارات المطلوبة لإنجاز تلك المهمة لا تقتصر على توفر القدرة التقنية البحتة لتصميم وتنفيذ الأنظمة التقنية.
التقدُّم الرقمي محفوف دائماً بالمخاطر
مما لا شك فيه أن معدلات الجريمة السيبرانية تتزايد مع تنامي الاقتصاد الرقمي، حيث تحدث ملايين الهجمات مع تسجيل عدد متزايد من التفاعلات عبر الإنترنت والهاتف المحمول. ويتسبب العديد من تلك الهجمات بإحداث خروقات في البيانات، ما يعرّض الأشخاص والشركات للخطر، ومن المحتمل أن تصل الخسائر السنوية للهجمات السيبرانية إلى نحو 10.5 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2025، بالنظر إلى معدل النمو الحالية، وفقاً لتحليلات «ماكنزي».
كما كشف مؤخراً الدكتور محمد الكويتي، رئيس الأمن السيبراني لحكومة دولة الإمارات، عن تعاون المجلس مع مختلف الجهات المعنية لردع أكثر من 50 ألف هجمة سيبرانية يومياً تستهدف القطاعات الوطنية الاستراتيجية، ويؤكد هذا الرقم ضرورة بناء ثقافة قوية حول الأمن السيبراني في دولة الإمارات وعلى جميع المستويات.
وينبغي على الاقتصادات الرقمية الناشئة منح الأولوية لجاهزية الأمن السيبراني بهدف الحد من المخاطر المحتملة للتحول الرقمي، بما في ذلك إنشاء إطار عمل فعّال للأمن السيبراني وإجراء تقييمات أمنية منتظمة وتعزيز برامج التوعية ومشاركة أفضل الممارسات وتبادل المعلومات المتعلقة بالهجمات.
سياسات تساعد على الوصول إلى منجزات العصر الرقمي المنشودة
تنظر معظم دول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الراهن إلى الحوكمة الرقمية على أنها وسيلة لتسهيل الأجندة الوطنية وتنويع الاقتصاد وبناء مستقبل أكثر استدامة، وينبغي أن تضمن سياساتنا شمولية أسواقنا وتوفير وصول واسع إلى الفرص الجديدة، بالتزامن مع الدور الراهن للتكنولوجيا في إعادة رسم ملامح الأسواق وديناميكيات التوزيع.
كما يجب مواكبة مجالات بيئة الابتكار والبنية التحتية الرقمية وتطوير القوى العاملة وأُطر الحماية الاجتماعية والسياسات الضريبية، ما يُتيح الاستفادة من إمكانات النمو الاقتصادي قدر المستطاع.
وتكمن قوة المجتمع الرقمي في إرساء مثل هذه السياسات التي تمهّد الطريق للوصول العادل وحماية المعلومات الحساسة وتعزيز الثقة في عالمنا المترابط.
ولا يقتصر اعتماد مستقبلنا الرقمي على التكنولوجيا فحسب، إنما يعتمد أيضاً على القدرة الجماعية للاستفادة من تلك التكنولوجيا بطريقة تطوّر مجتمعاتنا وتعزز مستويات الإنجاز البشري. وتسير دولة الإمارات على الطريق الصحيح لبناء مجتمع رقمي مرن ومزدهر للجميع، كما تخطط للوصول إلى مجتمع رقمي متقدم وقوي في أقرب وقت ممكن من خلال مواصلة العمل الدؤوب والتعاون بين الشركات والحكومات والأفراد.
* مارتن ييتس هو رئيس التكنولوجيا في شركة «إنجازات» وله خبرة أكثر من 30 عاماً في قطاعات متنوعة.
** الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».