لم يعد بالأمر الجديد أن برنامج شركة أوبن إيه آي للمحادثة الآلية تشات جي بي تي أحدث ثورة عالمية، لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي، منذ إصداره منذ أكثر من عام، لما يتيحه من إمكانيات هائلة، لا سيما إمكانية الاعتماد عليه لاختصار ساعات طويلة من وقت كل فرد.
أدرك مطورو تشات جي بي تي أننا لم نعد نمتلك الطاقة الكافية للكتابة أو القراءة أو إعداد التقارير، أو حتى تطوير المشاريع وابتكار أفكار جديدة، وبهذا قدم تشات جي بي تي الحل المنقذ للخبراء ممن لا يمتلكون الوقت الكافي لإنجاز مهامهم الكثيرة، فهو قادر على الإجابة على أسئلة العملاء وإرسال رسائل البريد الإلكتروني وكتابة الأكواد البرمجية بسرعة كبيرة ليختصر الوقت والجهد الفكري بأجوبة فورية.
ثم جاء منذ بضعة أشهر قرار فصل مؤسس شركة أوبن إيه آي سام ألتمان، رائد الأعمال والمستثمر الأميركي ذي الـ38 عاماً، ثم إعادة تعيينه لاحقاً، ما شكل صدمة في المجتمع التقني بأكمله، وأشارت هذه الاضطرابات المتسارعة إلى تضارب في الرؤى حول التزام شركة أوبن إيه آي بمساعدة البشرية وبناء نموذج عمل لتحقيق الأرباح، وبالرغم من هذه السردية المتغيرة بسرعة، لا بد أن نتمهل قليلاً ونتمعن في الدور الرمزي الذي تلعبه شركة أوبن إيه آي في حياتنا اليومية.
وتشير المصادر إلى أن السبب في هذه التقلبات يعود بشكل جزئي إلى التقدم الذي حققته الشركة في مشروع كيو ستار القادر على حل بعض المسائل الرياضية، والذي يعتبر خطوة كبيرة في الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام، إلا أن القصة أكثر تعقيداً من ذلك، والتغيرات المتسارعة تجعل من الصعب فهم تسلسل الأحداث.
وبالتوازي مع تحول النموذج المذهل الذي تمثله شركة أوبن إيه آي، يمكن القول إنها وقعت ضحية لنجاحها الذي يمكن وصفه بأنه سابق لأوانه، وتمثل هذه الخلافات دليلاً على اتباع منهجية متسرعة وتضارباً في الرؤى بين ألتمان ومجلس الإدارة، وبالرغم من أن العناوين حول الفوضى الحاصلة في أوبن إيه آي مثيرة للاهتمام، فإنها تقدم دروساً عملية ونصائح قيمة يجب الاستفادة منها في مختلف الأعمال والمجتمع التقني.
الذكاء الاصطناعي وتبعاته
بعيداً عن التقلبات والتغيرات المفاجئة في أوبن إيه آي، يجب أن ندرك أنّ عدم وجود لوائح تنظيمية شاملة في قطاع الذكاء الاصطناعي ينعكس علينا جميعاً، والأمر لا يقتصر على عالم الشركات، حيث صرح عدد من المعلقين أنّ هذه التداعيات تشير إلى عدم نضج قطاع الذكاء الاصطناعي، ورغبة وادي السيليكون المستمرة في الهيمنة على السوق العالمية، ويبدو أن القطاع تم إفساده نتيجة مغالاة الشركات الناشئة، وغياب المعايير والقواعد الأخلاقية الواضحة وعدم وجود اتفاقيات ناظمة.
هذه الحريات هي سبب أساسي في النجاح المتسارع في معظم شركات التكنولوجيا العملاقة، إلا أنها تحت هيمنة قلّة من الأفراد الطامحين بتحقيق المكاسب من خلال عدم وجود هذه التنظيمات، وبالرغم من إمكانيات تشات جي بي تي الفائقة التي أذهلت العالم في البداية، فإنها سرعان ما أثارت عدداً من مخاوف، لا سيما حول ارتفاع معدلات البطالة أو تقديم إجابات خاطئة ومحتوى غير موثوق وغير أخلاقي في بعض الأحيان، دون أن ننسى إجاباته المخيفة والإجرامية.
كما يمتلك آخرون نظرة تشاؤمية حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، ويجدون فيه ضرراً قد ينتهي بهلاك المجتمعات، ومن المحزن أن يتبع هذا القطاع مسار التقنيات الأخرى نفسه، حيث تنطلق في بدايتها لخدمة البشرية، قبل أن تتحول لاحقاً إلى نماذج هادفة للربح، ويمكن القول إن عدم وجود التنظيمات المناسبة للشركات المختصة بالذكاء الاصطناعي قد مكن الأفراد المطورين لها من تصدر الواجهة وامتلاك قوة مبالغ بها.
كما يجب علينا أن ندرك آثار الذكاء الاصطناعي التوليدي على المجتمع ككل، ونلاحظ أن تطور هذه التقنية يجري وفق أسلوبين مختلفين، الأول يدعو إلى تطبيقها لتحقيق الربح السريع، بينما يدعو الآخر إلى التروي لتقديمها بأسلوب مدروس وأكثر تنظيماً. ويدعو يوشوا بنجيو، أحد الشخصيات الرائدة في تطبيقات التعلم العميق والحائز على جائزة تورينج، إلى توجيه الأبحاث وجهد الحكومات نحو تحديد آلية للتعامل مع مخاطر الذكاء الاصطناعي ووضع المزيد من اللوائح التنظيمية.
كما قدم كل من ريتشارد بلومنتال وجوش هاولي، أعضاء اللجنة الفرعية لمجلس الشيوخ الأميركي، مشروع قانون مدعوماً من الحزبين لتنظيم الذكاء الاصطناعي بهدف الحماية من استخدامه الخاطئ وآثاره السلبية، ويمكن أن تساعد مثل هذه الجهود على تطوير القطاع بصورة أكثر نضجاً، وإيجاد تنظيمات قادرة على حماية العملاء والمستهلكين من النتائج المحتملة للنزاع على المواقع القيادية في الشركات، ويقر التشريع بأن السبب وراء امتلاك الأشخاص البارزين في قطاع الذكاء الاصطناعي سلطة مبالغاً فيها يعود بالدرجة الأولى إلى أن القطاع ذاتي التنظيم.
ويشعر رواد التكنولوجيا في الشرق الأوسط بالقلق من القدرات الخارقة للذكاء الاصطناعي، نظراً لأنها قد تتسبب بعواقب غير مقصودة أو آثار سلبية خطيرة، ويتوقع أن تتجاوز الاستثمارات في قطاع التحول الرقمي في منطقة الشرق الأوسط وتركيا وإفريقيا 74 مليار دولار أميركي بحلول عام 2026، ما يساعد المؤسسات على تحقيق النمو والاستقرار طويل الأمد، وذلك وفقاً لمؤسسة البيانات الدولية.
في الوقت نفسه، الـذكاء الاصطناعي التوليدي ما يزال في مراحله الأولى، ما يجعل من الصعب على غير العاملين في القطاع مراقبة نسخه العديدة التي ما يزال الكثير منها قيد التطوير، ويبدو أن ما يمكن فعله في الفترة الراهنة هو اعتماد الحكومات والمشرعين وقادة القطاع عقلية جديدة، والحرص على جاهزيتهم للاستجابة السريعة والفعالة، ويتطلب ذلك تطوير أطر عمل مستقلة للمراقبة والتنظيم بصورة استباقية ومستمرة، بدلاً من ردود الأفعال غير المدروسة والتخوف المبالغ فيه من التبعات المحتملة.
الذكاء الاصطناعي وتشعّباته
يجب أن يتم التركيز على الاستخدامات الشخصية لهذه التقنية، وتوجيه خبراء القطاع والمبدعين والناس العاديين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي للتفكير أبعد من مفهوم السرعة والراحة التي توفرها قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ويمكن للنص الذي نشره فرويد عام 1930 بعنوان «قلق في الحضارة» أن يساعدنا على فهم التاريخ القديم لهذه المشكلات وجدلياتها، بالرغم من أننا نتحدث في المشهد المعاصر للذكاء الاصطناعي.
حيث ترتكز نظرية فرويد على ثلاث حجج، تتضمن الأولى أن تطور الحضارة يكرر مسار تطور الفرد، وتشير الثانية إلى أن هدف الحضارة الأساسي هو إخماد الغريزة العدوانية للمعاناة التي لا تطاق، أما الثالثة فتأخذ بالحسبان هذه الانقسامات مشيرة إلى أن الفرد والمجتمع تائهان بين الرغبة في العيش (إيروس) وتمني الموت (ثاناتوس).
ويجب على مستخدمي الذكاء الاصطناعي التوليدي تقبل مسؤوليتنا الشخصية والحاجة إلى التنظيم الذاتي والتقييم النقدي، والتفكير بعيداً عن حدود الخوارزميات، تماماً كما أقام فرويد حجته حول الحضارة على التناقض بين الرغبة في العيش وتمني الموت، ويتطلب ذلك إمعان النظر في الدورات المجانية التي تروج لها الشركات التقنية مثل غوغل، والهادفة إلى دفعنا للتعلق بسهولة باستخدام الذكاء الاصطناعي وما يوفره من راحة، ويجب أيضاً على الخبراء والأفراد المثقفين والواعين أن يكونوا قادرين على تحديد القيود المنهجية لنماذج الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالرأسمالية التواصلية، بالإضافة إلى اكتساب المعرفة والفهم حول كيفية استفادتنا واستثمارنا في إمكانياته.
وسنلاحظ مع التشعب المتزايد للذكاء الاصطناعي التوليدي، صعوبة التمييز بين شخصيتنا وبين موقعنا في السوق كمستخدمين رقميين موجهين تجارياً نحو الدعاية والترويج للمنتجات المختلفة والاستهلاك وإنتاج المحتوى الشخصي، وسيستمر الحاجز الذي يفصل بين الذات الشخصية وبين السلعة والبيانات بالتلاشي شيئاً فشيئاً في عصر الذكاء الاصطناعي المتسارع، ويمكننا أخذ جميع المعطيات الموجودة لتكوين صورة عن السيناريو الحالي للذكاء الاصطناعي التوليدي بصفته نسخة متطورة عما يحدث عندما تتقاطع الأفكار والحركات والتكنولوجيا الثورية مع التفرد والأنانية وسط قطاع يفتقر للتنظيم وربما غير قابل للمراقبة أساساً.
يمكننا بدلاً من ذلك تخصيص الوقت للبحث والنقاش حول كيفية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في مساعدة البشرية على تجاوز النزاعات التي يطرحها مفهوم تحقيق الأرباح، ويجب علينا مطالبة خبراء التكنولوجيا والقائمين على تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي بالقيام بالمزيد من الجهود، وذلك بما يضمن سلامتنا وكيفية استخدام هذه التقنيات بطريقة ديمقراطية تخدم تطور البشرية وازدهارها وليس العكس.
* د. زوي هيرلي أستاذة مساعدة في جامعة زايد في دبي في كلية الدراسات متداخلة التخصصات.
**الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».