مما لا شك فيه أن العقد الماضي اتسم بالصراعات والأزمات والحروب القاتلة، وكان عام 2022 العام الأكثر دموية منذ 1994، عندما ألحقت الحروب القاتلة الدمار الكبير في كل من رواندا ويوغوسلافيا السابقة، مزهقة أرواح أكثر من 238 ألف شخص، وانتهى عام 2023 على وقع حروب طاحنة في غزة والسودان وأوكرانيا لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وتستمر النزاعات في جميع أنحاء العالم في حصد أرواح أعداد لا تُحصى وتشريد ملايين المدنيين من منازلهم، تاركةً الكثيرين في حاجة ملحة إلى المساعدات المنقذة للحياة.

بات عالمنا بأمسّ الحاجة إلى إعادة بناء الأسس التي يمكن أن يقوم عليها السلام، لكن في كثير من الأحيان يتم وضع أحد أهم هذه الأسس، وهو التعليم، في أسفل سلم الأولويات، ولتسليط الضوء على هذا السهو، تم تخصيص اليوم الدولي للتعليم هذا العام للسلام، إدراكاً أن التعليم هو أحد ركائز السلام والأمن الأساسية.

لقد سال حبر كثير على الآثار الكارثية للصراع على التعليم، لكن معظم الأبحاث حول العلاقة المتبادلة بين السلام والتعليم كانت متفرقة وعفا عليها الزمن، ولسد هذه الفجوة المعرفية الأساسية وتوفير الأدلة اللازمة لصياغة السياسات السليمة، عقدنا نحن (الشراكة العالمية من أجل التعليم) شراكة مع معهد الاقتصاد والسلام لتحليل العلاقة بين التعليم والسلام وفهمها بشكل أفضل.

ومن غير المستغرب أن تؤكد أبحاثنا الارتباط القوي بين التعليم والسلام، لكن ما يثير الدهشة هو مدى تعزيز التعليم والسلام بعضهما بعضاً، وتُظهر أبحاثنا أن البلدان التي لديها معدلات عالية في إكمال الدراسة الابتدائية، هي بشكل عام أكثر سلاماً، وفي المقابل فإن البلدان التي تتمتع بمستويات عالية من السلام، لديها معدلات عالية في إتمام الدراسة الثانوية تبلغ 99 في المئة، وعلى العكس من ذلك فإن البلدان التي تعاني من مستويات منخفضة من السلم لديها في المتوسط معدلات إتمام للدراسة الثانوية تقدر بنحو 52 في المئة فقط.

وقد أظهر تحليل لمجموعة من مؤشرات التعليم والسلام أن البلدان التي تشهد تحسينات في قطاع التعليم تتمتع أيضاً بقدر أكبر من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وأن العكس هو الصحيح، إذ تميل البلدان ذات المستويات التعليمية المنخفضة إلى مواجهة صراعات داخلية أكثر شدة، وبعبارة أخرى فإن من شأن الأداء الأفضل لقطاع التعليم أن يقلل شدة العنف المجتمعي ومدته وإنقاذ الأرواح.

وأكثر من أي مؤشر تعليمي آخر، فإن مدة التعليم وجودته تعدان قوة فاعلة لتخفيف حدة الصراع الداخلي وتقليل احتمالية حدوث الاضطرابات في المستقبل.

وأخيراً وليس آخراً، في جميع البلدان التي تناولها تقريرنا، ارتبطت التحسينات في مؤشرات السلم بالمزيد من الاستثمار في التعليم، وتتمتع البلدان التي تستثمر أكثر في قطاع التعليم بمستويات أعلى من السلام في المعدل الوسطي، وعلى سبيل المثال في عام 2020 حصلت ناميبيا، وهي واحدة من أكثر البلدان سلمية في إفريقيا، على سادس أعلى معدل للاستثمار الحكومي في التعليم على مستوى العالم كنسبة من ناتجها المحلي الإجمالي.

واليوم، تتضاءل الموارد المخصصة للقطاع التعليمي في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل، حيث ترزح الميزانيات الوطنية تحت وطء العجز المالي المتزايد والدين العام، وتداعيات جائحة كوفيد-19 وعدم الاستقرار الجيوسياسي وأزمات المناخ، ومنذ عام 2020 انخفضت ميزانيات التعليم فيما يقرب من نصف البلدان منخفضة الدخل، بنسبة 14%، وارتبطت زيادة قدرها دولار واحد فقط في الدين الخارجي بانخفاض قدره ثلاثة دولارات في الإنفاق على التعليم، وفي حين أن التخفيضات في ميزانيات التعليم قد تساعد في تخفيف عبء الميزانيات، فإنها تحرم الاقتصادات من التنمية على المدى الطويل.

وعلاوة على ذلك، كان هناك انخفاض في المساعدات الخارجية للتعليم، فوفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، انخفضت المساعدة الإنمائية الرسمية لقطاع التعليم إلى أقل من 10% من إجمالي المساعدات قبل الجائحة، التي بلغت 12% قبل عقد من الزمن، ولا تبدو في الأفق أي بوادر للانتعاش.

إن خفض أولوية الميزانيات الوطنية والمساعدات الأجنبية لقطاع التعليم هو خيار قصير النظر لن يؤدي إلا إلى جعل السعي إلى تحقيق التنمية المستدامة والسلام أكثر صعوبة، لقد بدأ هذا العام بنظرة عالمية قاتمة للسلام، لكن يمكننا استعادة الأمل من خلال الاستثمار بشكل عاجل في التعليم.

تشير الأدلة المتزايدة إلى أن التعليم استثمار ذكي ومستدام في إحلال الرخاء والسلام، ويتعين علينا أن نعمل على عكس اتجاه انخفاض الموارد المخصصة للتعليم، وفي الوقت نفسه إيجاد سبل أخرى، مثل إعادة هيكلة الديون، لإعادة توجيه الأموال إلى التعليم الجيد، من شأن ذلك أن يمكننا جميعاً، حكومات وجهات مانحة، من الوفاء بمسؤوليتنا الجماعية المتمثلة في منح كل فتاة وفتى فرصة الحصول على المعرفة والمهارات التي يحتاجون إليها لرسم مستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً.

* لورا فريجنتي، الرئيسة التنفيذية للشراكة العالمية من أجل التعليم. شغلت منصب رئيسة موظفي مكتب البنك الدولي، ومديرة عامة للوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي، إضافةً إلى منصبها السابق كمديرة للمكتب العالمي لشؤون معهد خدمات المساعدة الإنمائية الدولية في شركة كي بي أم جي.

** الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».