يحافظ قطاع العقارات التجارية في دبي على المكتسبات والتقدم الذي أحرزه لغاية يومنا هذا، مواصلاً بذلك مسيرة النمو والنجاح، بالرغم من التراجع الذي تشهده أسواق العقارات حول العالم، ويُعزى ذلك أولاً وأخيراً إلى حرص إمارة دبي على توفير بيئة استثمارية جاذبة ومرنة ودائمة التطور، ويعكس تقرير شركة ماكينزي بعنوان «تحويل المساحات الفارغة إلى أماكن متعددة الاستخدامات» واقعاً مقلقاً إلى حد ما حول سرعة تعافي سوق العقارات التجارية حول العالم، إذ من المتوقع أن يبقى الطلب على المساحات المخصّصة للمكاتب ومتاجر البيع بالتجزئة في المدن التجارية الكبرى، مثل نيويورك ولندن وسان فرانسيسكو، دون المعدلات المسجلة ما قبل جائحة كوفيد-19، في ظل توقع تراجع إضافي بنسبة 13% بحلول عام 2030 مقارنةً بمعدلات عام 2019.

وبالرغم من هذه التوقعات غير الواعدة، تواصل سوق العقارات التجارية في دبي التفوق على أسواق العقارات العالمية، وقد أشار تقرير مراجعة منتصف العام لمجموعة «سي بي آر إي» إلى أن حفاظ قطاع التأجير على أدائه الثابت والمدفوع بالطلب القوي من الشركات العالمية والإقليمية والمحلية لم يؤدِ إلى نقص في المساحات المخصصة للمكاتب عالية الجودة من درجة الفئة الأولى «A» فحسب، بل أدى أيضاً إلى زيادة في أسعار إيجار العقارات من الدرجة «B» و«C»، في ظل مشارفة تحقيق معدلات إشغال قصوى تقريباً في العديد من العقارات الرئيسية القائمة ضمن مجمعات الأعمال المركزية.

وباتت العديد من الشركات الكبرى تدرك اليوم أهمية وجود الموظفين شخصياً ضمن بيئة عمل محفزة على التعاون وتبادل الخبرات والعمل المشترك، لذلك أصبحت تتوجه تدريجياً نحو تنفيذ سياسات فعالة لتحفيز الموظفين بشكل متزايد على الذهاب إلى المكاتب باستمرار، ومنها على سبيل المثال لا الحصر شركات غوغل وأمازون وميتا التي تعمل على اتباع نهج عمل يرتكز على الحضور الشخصي أو عمل الموظفين من المنزل والمكتب في آن واحد.

وفي الوقت نفسه، يشير تقرير السوق الصادر عن شركة «سي آر سي» للربع الثاني من عام 2023 إلى نمو كبير وملحوظ في معاملات المبيعات التجارية في دبي، بما يؤكد على ارتفاع معدلات الثقة بالسوق المحلية وترسيخ مكانة دبي وجهةً عالميةً مفضلة للأعمال والاستثمار تمكّن الشركات من التوسع في أعمالها والنفاذ إلى أسواق واعدة في المنطقة وما وراءها.

ويرتكز الأداء القوي للقطاع التجاري المحلي على النمو المتسارع الاقتصادي لاقتصاد دبي، حيث تسهم مبادرات التنويع الاقتصادي في نمو الاقتصاد غير القائم على النفط، وتُظهر بيانات صادرة عن حكومة دبي نمو اقتصاد الإمارة بنسبة 3.2% في النصف الأول من عام 2023، مقارنةً بالفترة ذاتها من العام السابق، وبقيمة إجمالية بلغت 223.8 مليار درهم إماراتي، بما ينسجم مع مستهدفات أجندة دبي الاقتصادية D33 الهادفة لاستدامة النمو الاقتصادي القوي خلال العقد المقبل، وتكريس موقع دبي ضمن أفضل ثلاث مدن اقتصادية حول العالم.

وتزداد اليوم ثقة المستثمرين بالمنظومة التجارية المتكاملة في دبي، وهو ما ينعكس من خلال الزيادة النسبية في تراخيص الشركات الجديدة وإطلاق مجموعة من الشراكات الثنائية والاستراتيجية منذ عام 2021، وبدورها تسهم اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة التي تبرمها دولة الإمارات العربية المتحدة مع دول العالم في توفير ممرات استثمارية وتجارية جديدة، وهو ما يساعد بشكل أساسي على جذب الشركات العالمية، ومن شأن انضمام دولة الإمارات إلى مجموعة بريكس أن يسهم في تعزيز الحوار والعلاقات الاستراتيجية القائمة مع الدول ذات الاقتصاد النامي والناشئ على المستوى الدولي.

وتعد الفرص الاقتصادية المشتركة بين القطاعات في دبي من الركائز الأساسية لجذب وتنمية المواهب والمبدعين والكفاءات البشرية، حيث تسهم جودة الحياة العالية في الإمارة، وبيئتها الاستثنائية الداعمة للاستثمار، وبنيتها التحتية القوية والمتطورة، وأنظمتها المرنة الداعمة للأعمال، وأنواع التأشيرات المتعدّدة وفرص العمل الغنية والمتنوعة فيها، في استقطاب نخبة كبيرة من الموظفين ذوي المهارات العالية، وقد أدى توجه المزيد من المقيمين الجدد إلى دبي في الآونة الأخيرة إلى تسجيل معدلات طلب قياسية ضمن قطاع العقارات السكنية.

ولا يُعزى الأداء الجيد لقطاع العقارات التجارية في دبي إلى المساحات المخصّصة للمكاتب فحسب، بل أيضاً إلى توجّه عدد متزايد من العلامات التجارية إلى افتتاح مراكز إقليمية للبحث والتطوير ومصانع، مستفيدةً من خطط الحكومة لتعزيز سلاسل التصنيع والابتكار المحلية على المدى البعيد.

ومن المرجح أن يستمر الطلب على العقارات التجارية عالية الجودة في دبي بالنمو خلال عام 2024، وذلك مقابل المخاوف من عدم النمو المتوقع في الأسواق العالمية، وتسهم ظروف الاقتصاد الكلي الإيجابية التي تحافظ عليها إمارة دبي، والأهمية المتزايدة التي تكتسبها على الساحة العالمية، ومواصلة ترسيخ مكانتها كوجهة عالمية بارزة للأعمال والاستثمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في دفع قطاع تأجير العقارات التجارية قدماً، وسوف تواصل دبي تسجيل نمو في الطلب على استئجار المساحات المكتبية عالية الجودة والمرونة ضمن مجمعاتنا التجارية والصناعية، في ظل مواصلة نمو منظومة الأعمال المتكاملة فيها، من خلال استقطاب شركات جديدة وجذب المواهب والاستثمارات وسعي الشركات العالمية الدؤوب للعثور على موقع استراتيجي في عالمنا الذي يشهد اليوم تغيرات جذرية متسارعة.

* عبدالله بالهول، الرئيس التنفيذي لمجموعة تيكوم أحد أكبر مالكي العقارات المكتبية في دبي، وقبل تعيينه في المنصب شغل بالهول منصب الرئيس التنفيذي للشؤون التجارية لدى دي اتش اي ام ش.م.م، حيث قاد جهود نمو وتطوير محفظة المجموعة الواسعة المكونة من 10 مجمعات أعمال و20 وجهة تسوق و15 مجمعاً سكنياً، وشغل سابقاً منصب الرئيس التنفيذي لمدينة دبي الصناعية في 2013 والرئيس التنفيذي للشؤون التجارية في تيكوم في عام 2018، وشغل قبل عام 2013 مناصب قيادية مختلفة في دبي القابضة، حيث أشرف على بناء وتشييد مجموعة من المشاريع التي باتت معالم بارزة في دبي، وتولى مناصب إدارية مختلفة في مركز دبي التجاري العالمي والشؤون الهندسية لدى هيئة دبي للطيران المدني.

** الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».