«الجغرافيا قدر»، استناداً لهذه المقولة لابن خلدون فنحن نعيش الواقع الذي فرضته علينا أراضينا، والسمات التي تنتقل من جيل إلى آخر هي ما تُميّز تركيا على أساس مبادئ المجتمع والإيثار، ويرسّخ هذا الفهم ركيزة سياساتنا الخارجية وشؤون الدولة لأكثر من 20 عاماً، وروعة ذلك تكمن في إمكانات البلاد غير المحدودة.
لكن، لا يمكن أن تقتصر رحلتنا لنصبح مركزاً للطاقة على موقعنا الجغرافي فقط، لذلك أجرينا الاستثمارات اللازمة في البنية التحتية، وفتحنا أسواق الطاقة لدينا أمام القطاع الخاص، وسهّلنا النشاط التجاري، ونواصل تنفيذ دبلوماسية الطاقة (من خلال علاقات دولية تضمن تعزيز الوصول إلى موارد الطاقة والأسواق).
انتقلت تركيا الآن من دولة تعتمد على الطاقة لتصبح دولة قادرة على تلبية احتياجاتها واحتياجات الدول المجاورة وما أبعد من ذلك، إذ تقدّم البلاد خيار الوصول إلى السوق العالمية عبر الطرق التي تربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.
وفي مواجهة تحديات أمن الطاقة، ندرك تماماً أهمية الغاز الطبيعي، خاصة الغاز الطبيعي المسال، والحلول المرنة للطاقة في أثناء فترة الانتقال الطاقي (من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة).
وبالفعل، حددت معظم الدول أهدافاً للوصول إلى صافي الانبعاثات الصفرية لمنع العالم من مواجهة الآثار المدمرة لتغيّر المناخ، ولا يمكن أن يحدث هذا الانتقال الطاقي إلّا من خلال العمل الجماعي وتفاني شركائنا والمنظمات الدولية.
ومع ذلك لا تزال العديد من المناطق تعتمد على البنية التحتية القديمة، كما لا تزال التطورات التكنولوجية اللازمة لدمج الطاقة المتجددة بكفاءة -مثل تخزين طاقة البطاريات والشبكات الذكية- في مراحل تطورها، ما يجعل الانتقال بطيئاً في بعض المناطق.
وقد عززت تركيا تنويع الموارد من خلال البنية التحتية التي أنشأتها مع الدول المجاورة، فضلاً عن شراء وحدة إنتاج الغاز المسال العائمة التي سيظهر تأثيرها في السوق فوراً بعد بدء تشغيلها، بينما لا تزال هذه السوق التنافسية قيد التطور.
وإلى جانب برنامجنا الطويل الأمد للتنقيب عن الغاز، نعمل على تطوير مشاريع خطوط الأنابيب الدولية، بما في ذلك مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر الأناضول «تاناب TANAP»، الذي يُعدّ شرياناً حيوياً يوفّر الغاز الطبيعي لقارة بأكملها، ومن المفترض أن يمتد نحو أحواض تركمانستان متصلاً بممر الغاز الجنوبي عبر أذربيجان إلى جورجيا وتركيا ثم إلى أوروبا.
ومع تزايد سياسات الانتقال إلى الطاقة الخضراء في أوروبا، تحتاج السياسات التي تهدف إلى التخلص التدريجي من الفحم إلى الغاز الطبيعي كوقود انتقالي لكي تتمكن الدول كافة من الوصول إلى أهداف الطاقة المتجددة التي ترغب فيها، دون تعريض الإمدادات للخطر أو ارتفاع أسعار الطاقة.
كذلك، فإن وظيفة خط الأنابيب «تاناب» واستخدام قدرات إعادة تغويز الغاز المسال تعني أن القارة الأوروبية لديها خيار لمواجهة مشكلة إمدادات الغاز الحالية.
في الأشهر الأخيرة، تجاوزت محفظتنا الاستثمارية الإطار التقليدي، إذ وقّعت تركيا اتفاقية للغاز الطبيعي المسال لمدة 10 سنوات مع شركة «إكسون موبيل» لتوريد 3.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال.
وفي 15 أغسطس آب 2024، حققت سوق الغاز لدينا رقماً قياسياً بعدما وصل إنتاج الغاز الطبيعي المحلي إلى 7.6 مليون متر مكعب يومياً، ما يوفّر الغاز الطبيعي لنحو 3.3 مليون منزل، وهو إمداد لم يكن لدينا إمكانية الوصول إليه قبل اكتشافاتنا.
وبالإضافة للإمدادات من حقل الغاز «شاه دنيز»، زادت تركيا من قدراتها وإمكاناتها للوصول إلى ما هو أبعد من الدول المجاورة إلى وسط أوروبا، في إشارة إلى الصفقة الأخيرة مع «شل» لتوريد 4 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال، وطالما هناك طلب على الغاز، فنحن جاهزون لتلبية الاحتياجات.
كذلك، أعلنّا اليوم الصفقة الجديدة بين «بوتاش» و«توتال إنرجي» لتوريد طويل الأجل للغاز الطبيعي المسال لنحو 1.6 مليار متر مكعب سنوياً على مدى 10 أعوام تبدأ من عام 2027.
وتعتبر مشاركتنا الأخيرة مع الولايات المتحدة لتوريد الغاز الطبيعي المسال أمراً حاسماً لتحقيق التوازن وتنويع محفظة الغاز الطبيعي لدينا.
بجانب تقنيات إعادة تحويل الغاز المسال القوية، فإن خطوط الأنابيب مثل «تاناب» و«تورك ستريم» (يمتد من روسيا إلى تركيا)، و«بلو ستريم» (ينقل الغاز الطبيعي إلى تركيا من روسيا) و«باكو- تبيليسي- جيهان» (يمتد من أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط)، فضلاً عن خطوط الأنابيب بين إيران وتركيا والعديد غيرها تشترك في هدف واحد، هو القدرة على تسهيل انتقال الطاقة في جميع أنحاء المنطقة.
ورغم أن بنيتنا التحتية قوية وجاهزة للتمدد إلى أبعد مدى، فإن مثل هذه المشاريع تتطلب إرادة سياسية قوية، والالتزام والاستقرار، ونتمنى فقط أن يسود الاستقرار والاتفاق في المنطقة الأوسع.
وتدعو تركيا إلى «انتقال ذكي للطاقة»، فبعدما وصلنا إلى نقطة تتلاقى فيها أهداف الانتقال في مجال الطاقة والأهداف المناخية والمصالح الوطنية والنمو الاقتصادي والاستدامة، أصبح استخدام الغاز الطبيعي لا مفر منه في هذه المعادلة.
ولأن تغيّر المناخ خطر يلوح أمام المناطق التي يؤثر فيها، فعلينا رسم خارطة طريق تجمع المناطق الجغرافية معاً، وإذا كانت «الجغرافيا قدراً»، فلننمو ونزدهر معاً.
*ألب أرسلان بيرقدار وزير الطاقة التركي يكتب لـ CNN اقتصادية عن دور تركيا في أمن الطاقة الأوروبي.
بين عامي 2016 و2018، شغل بيرقدار منصب المدير العام للعلاقات الخارجية والاتحاد الأوروبي ونائب وكيل وزارة الطاقة والموارد الطبيعية.
يشغل بيرقدار أيضاً مناصب في عديد من المنظمات الدولية المعنية بقضايا حوكمة الطاقة، وقد شغل منصب رئيس الاتحاد الدولي لمنظمي الطاقة (ICER) ورابطة منظمي الطاقة الإقليمية (ERRA)، ويشغل حالياً منصب رئيس المجلس العالمي للطاقة في تركيا.
**الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر CNN الاقتصادية.