في الوقت الذي علّق فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تطبيق الرسوم الجمركية على غالبية دول العالم لمدة 90 يوماً مع منح جميع الدول حداً أساسياً بنسبة 10% باستثناء الصين، والتي ستشهد رسوماً أعلى بنسبة تصل إلى 125 في المئة، يتوقع عدد من المحللين أن الحرب التجارية لم تكن بالنسبة لترامب مجرد معركة جمركية، بل كانت جزءاً من رؤية اقتصادية شاملة لإعادة تشكيل ميزان القوة التجارية العالمي لصالح الولايات المتحدة الأميركية.
فالرئيس الأميركي يهدف من خلال حروبه التجارية إلى خفض العجز التجاري للولايات المتحدة الأميركية، وإعادة التصنيع إلى أميركا من خلال نقل الشركات العالمية والأميركية لمصانعها إلى داخل الولايات الأميركية.
ففي الثاني من أبريل نيسان الجاري، فيما أُطلق عليه «يوم التحرير»، أعلن الرئيس الأميركي عن سياسة جمركية طالت غالبية دول العالم، كما طالت واردات بمليارات الدولارات، في محاولة لإجبار الشركات على تصنيع المنتجات داخل الولايات المتحدة بدلاً من استيرادها.
يقول أحمد عزام، رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي، لـ«CNN الاقتصادية»، إن الحرب التجارية لم تكن بالنسبة للرئيس الأميركي مجرد معركة جمركية فقط، «بل كانت جزءاً من رؤية اقتصادية شاملة لإعادة تشكيل الميزان التجاري مع دول العالم لصالح أميركا»، إذ يرى ترامب أن العجز التجاري بين أميركا ودول العالم والذي تجاوز في بعض السنوات 800 مليار دولار يمثل «سرقة صامتة» للثروة الأميركية».
وأضاف أن فرض الرسوم الجمركية لن يمنح الرئيس الأميركي الفرصة لتحقيق هدفه، «فعلى سبيل المثال في 2018، عندما فرض رسوماً على الصين بنسبة 25 بالمئة على سلع بقيمة 250 مليار دولار، كان هدفه خفض العجز مع الصين، الذي بلغ آنذاك أكثر من 375 مليار دولار، لكن رغم الرسوم، لم ينخفض العجز بالشكل المتوقع، بل تحوّل جزء من الواردات إلى دول أخرى مثل فيتنام والمكسيك، أي أن الرسوم (أعادت توجيه التجارة)، لكنها لم تُقلصها فعلياً».
وارتفع العجز التجاري للولايات المتحدة مع دول العالم خلال عام 2024، بنحو 133.5 مليار دولار، مقارنة بعام 2023، ليصل إلى 918.4 مليار دولار، في وقت ارتفع فيه العجز التجاري الأميركي مع الصين خلال عام 2024، بنسبة 5.8 في المئة، مقارنة بالعام السابق له ليصل إلى 295.4 مليار دولار.
ويقول شارل هنري مونشو، رئيس قسم الاستثمار في مجموعة SYZ السويسرية، لـ«CNN الاقتصادية»، إنه بتحليل تصريحات ترامب وتداولاتها «يبدو أن هناك ثلاثة أهداف أساسية يسعى إليها من خلال فرض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة، إذ يسعى لزيادة إيرادات الحكومة الفيدرالية الأميركية لتمويل التخفيضات الضريبية للشركات والأسر، وأيضاً دعم إعادة التصنيع في الاقتصاد الأميركي، وخفض اختلالات الميزان التجاري الأميركي مع بقية العالم».
وأضاف مونشو، أن أهداف الرئيس الأميركي قد تتحقق جزئياً «حتى لو لم تظهر معظم الآثار المحتملة إلا مع مرور الوقت، إذ لا يُعدّ إعلان بتعليق الرسوم موقتاً تراجعاً كاملاً عن تطبيقها، فمعدل الرسوم الجمركية الأساسي البالغ 10 بالمئة على جميع السلع المستوردة لا يزال سارياً، بالإضافة إلى تطبيق رسوم على الصين بنسبة 125 في المئة، كل هذا سيزيد إيرادات الحكومة الفيدرالية في الأسابيع والأشهر المقبلة».
ويقول رئيس قسم الاستثمار في مجموعة SYZ السويسرية، إنه مع مرور الوقت، من المتوقع أن تؤدي هذه الديناميكيات إلى خفض العجز التجاري الأميركي تدريجياً وإعادة التوازن في العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وبقية العالم، «ومع ذلك، فإن الفوائد الملموسة من هذه السياسات لن تظهر إلا بمرور الوقت، لأنها تتطلب إعادة تنظيم سلسلة التوريد، والاستثمار في القدرات الإنتاجية، وتدريب القوى العاملة».
يقول رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي، إن ترامب خلال حملته الانتخابية اعتمد على خطاب أحد أعمدته إعادة الوظائف إلى الداخل الأميركي، خصوصاً في الصناعات الثقيلة مثل الصلب والسيارات، «لكن عندما فرض ترامب رسوماً جمركية خلال فترة ولايته الأولى، فالكثير من الشركات لم تعد فعلياً للولايات المتحدة، بل نقلت إنتاجها إلى دول أخرى منخفضة التكلفة لتفادي الرسوم (مثل فيتنام وماليزيا)، ما قلص الأثر الإيجابي المحلي».
وبحسب بيانات مكتب الإحصاء الأميركي، ارتفع الاستثمار في مصانع جديدة داخل الولايات المتحدة بنسبة 13% خلال 2019 بعد فرض الرسوم.
يقول عزام، إن الرسوم الجمركية خلال فترة الرئيس ترامب الأولى، «كانت بالنسبة لترامب ورقة ضغط سياسية وتجارية لانتزاع اتفاقيات أفضل، حيث أجبرت الصين خلال المفاوضات على توقيع (المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري) في 2020، والذي تضمّن شراء منتجات زراعية أميركية بقيمة 200 مليار دولار خلال عامين على الرغم من عدم تحقق تلك الأهداف فعلياً لاحقاً بسبب جائحة كورونا».
يقول رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي، إن تجربة الرئيس الأميركي بفرض رسوم جمركية على الصين خلال فترة ولايته الأولى أثبتت معظم التعريفات تُحمَّل تكلفتها في النهاية على المستهلك الأميركي، وليست الدول الأجنبية، «حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك الأميركي بنسبة 0.5 بالمئة إضافية خلال ستة أشهر بعد فرض رسوم على الصين في 2018، ما فاقم الضغوط التضخمية».
وأضاف عزام، أن الرسوم تنجح فقط عندما تكون مصحوبة باستراتيجية صناعية متكاملة، تشمل دعم الشركات، تطوير البنية التحتية، وتحسين الإنتاج المحلي «وليس كإجراء معزول أو شعبوي كما يفعل الرئيس الأميركي».
ويرى رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي، أن المستهلك الأميركي سيكون الأكثر تضرراً من الرسوم الجمركية الأميركية لارتفاع بسبب ارتفاع أسعار السلع، «كما ستتضرر الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على سلاسل توريد دولية، بالإضافة على تضرر قطاع الزراعة، إذا قامت دول أخرى بالرد برسوم انتقامية على المنتجات الزراعية الأميركية كما فعلت الصين سابقاً».
ويقول عزام، إنه من المتوقع أن تحقق رسوم ترامب نتائجها، «إذا لم تُحقق حرب ترامب التجارية نتائج حاسمة في 2018–2020، فمن الصعب أن تنجح الآن في ظل عالم أكثر ترابطاً، وسلاسل إمداد أكثر تعقيداً، ومنافسة أشدّ من الصين، والهند، وحتى الذكاء الاصطناعي، لذلك الحرب التجارية ستكون سيناريو مشابهاً لما حصل سابقاً لمحاولة الوصول إلى مفاوضات أوسع مع المنافس الأول اقتصادياً».
وخلال فترة ولاية ترامب الأولى عانى المزارعون الأميركيون، بعد أن فرضت الصين رسوماً انتقامية على المنتجات الزراعية الأميركية، لتنخفض الصادرات الزراعية الأميركية إلى الصين بنسب تقارب 75 في المئة خلال عامي 2017 و2018، لتنخفض الأسعار بسبب فائض الإنتاج، ما أثر على أرباح المزارعين، لتطلق الحكومة الأميركية برامج لتعويض المزارعين المتضررين بتكلفة بلغت أكثر من 28 مليار دولار.
ويقول مونشو، إنه على الرغم من الآثار الإيجابية للرسوم الجمركية على الاقتصاد الأميركي، فإنه ثمة آثار سلبية قصيرة المدى لهذه السياسات، مع زيادة حادة في أسعار السلع للمستهلكين الأميركيين وضعف في الإنفاق الاستهلاكي، إلى جانب تزايد حالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية، وهو ما يؤثر سلباً على استثمارات الشركات وقرارات التوظيف، حيث لا يزال من غير المؤكد في هذه المرحلة ما إذا كانت هذه السياسات ستُحسّن إمكانات نمو الاقتصاد الأميركي على المديين المتوسط والطويل».