«أميركا استعادت توازنها واقتصادها يتعافى بالفعل» بهذه الكلمات حاول الرئيس الأميركي جو بايدن أن يطمئن الجميع على الوضع الاقتصادي لأكبر اقتصاد في العالم في خضم أزمة الدين التي يعيشها.
ولكن يبدو أن تعهد بايدن للعالم بأن « أميركا عادت» بعد فترة من الاضطراب السياسي، ليس على أرض صلبة بعض الشيء، وذلك بعد أن أجبرته مواجهة أزمة الديون مع الجمهوريين على تقليص مدة زيارته لآسيا والمحيط الهادئ التي كانت تهدف لإظهار قوة الولايات المتحدة وسط تحدٍّ من الصين.
جاءت محادثات بايدن في البيت الأبيض مع رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفين مكارثي بعد فوات الأوان، إذ لم تحرز تلك المفاوضات بشأن سقف الدين الأميركي تقدماً يذكر، ما اضطر الرئيس الأميركي لإلغاء زيارة تاريخية لبابوا غينيا الجديدة، وكذلك رحلة إلى أستراليا لحضور قمة مع قادة «رباعية» الأسبوع المقبل، وذلك ليتمكن من العودة للبلاد والتعامل مع أزمة الديون المتفاقمة، تسبب ذلك في إحراج دولي لن يمر مرور الكرام دون أن يلاحظه الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي يروج لنموذج بلاده كبديل للديمقراطيات الغربية المتعثرة.
لا يزال من المقرر أن يغادر بايدن لحضور قمة مجموعة السبع في اليابان يوم الأربعاء، ولكن من الواضح أنه يحتاج إلى العودة إلى واشنطن في وقت أبكر مما هو مقرر الأسبوع المقبل، فيما تتصاعد الأزمة بلا هوادة، إذ يسعى الجمهوريون إلى إقرار تخفيضات ضخمة في الإنفاق مقابل رفع سلطة الاقتراض الحكومية.
أخطر النزاعات السياسية
يعكس قرار الرئيس بايدن حقيقة أن وجوده سيكون حاسماً لحل أخطر النزاعات السياسية في واشنطن أثناء رئاسته، التي تهدد بتخلف الولايات المتحدة -الملاذ المفترض ل لاستقرار المالي العالمي– عن سداد التزامات ديونها بحلول الأول من يونيو حزيران.
ويبدو أن بوادر إحراز تقدم في محادثات المكتب البيضاوي لبايدن مع مكارثي يوم الثلاثاء لم تفعل شيئاً يذكر لإبطاء العد التنازلي نحو كارثة محتملة يمكن أن تدمر الاقتصاد، وتهدد المعاشات التقاعدية المرتبطة بالسوق والمزايا والأمن المالي لملايين الأميركيين.
في حين أن مثل هذه النتيجة من شأنها أن تهز الاقتصاد العالمي -حيث تتشابك المصالح الأميركية والصينية– فإنها ستمثل فوزاً دعائياً كبيراً لأعداء أميركا، وستؤثر بشدة على مزاعم واشنطن بوجود قيادة عالمية موثوقة على المدى البعيد.
تقدم ضئيل بلا جدوى
أصر بايدن يوم الثلاثاء على أن اجتماعه مع مكارثي وغيره من قادة الكونغرس كان مثمراً، وقال مكارثي إنه يشعر بالحماس لأن المحادثات كانت مفيدة «أكثر قليلاً» من الجولة السابقة.
لكن حقيقة الأمر هي أن الفجوات بين الجانبين لم تتغير على الإطلاق، لذا فإن الأزمة تزداد سوءاً بشكل فعال، وهو ما يدفع نحو تسمية النائب الجمهوري غاريت جريفز للتفاوض مع مدير مكتب الإدارة والميزانية، شالاندا يونغ ومساعد البيت الأبيض ستيف ريتشيتي بشأن حد الديون.
قال توماس كان، الأستاذ في كلية الشؤون العامة بالجامعة الأميركية، والذي ظل أطول فترة مديراً لموظفي لجنة الميزانية بمجلس النواب في التاريخ، «إنه على الرغم من إيجابية تحدث الطرفين، فإن الطبيعة التصاعدية لتصريحات الطرفين تعكس الفجوات الهائلة الموجودة بينهما»، وأضاف «لم يتمكن الطرفان من الاتفاق على الجوهر، لكنهما اتفقا على عملية السير».
كما تنم المناورات في البيت الأبيض ومبنى «الكابيتول هيل» يوم الثلاثاء عن تحول في سياسات المتعلقة بالدين، فبعد شهور من إصرار بايدن على أنه لن يتفاوض بشأن تخفيض الإنفاق لتأمين رفع سقف الديون كمكافأة للجمهوريين، يبدو الآن أن البيت الأبيض يستجيب لهذا بالفعل.
وهذا لا يعني أن الديمقراطيين سيقبلون مشروع قانون جمهوري يرفع سقف الديون والذي يتضمن تخفيضات كبيرة في الإنفاق لكن في الوقت نفسه يبدو أن الديمقراطيين تخلوا عن أملهم في تأمين «فاتورة نظيفة» ترفع حد الاقتراض بدون تنازلات.
قال زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، «علينا أن نتوصل إلى أرضية مشتركة»، وأضاف «هذه هي الطريقة الوحيدة التي يتم بها القيام بذلك، لكن تجنب الكارثة لن يكون بهذه البساطة من خلال إبرام صفقة كلاسيكية بين بايدن ومكارثي».
وهناك تساؤلات حول قدرة مكارثي السياسية وبراعته فعلى سبيل المثال، لم يستطع مكارثي سوى تمرير مشروع قانون رمزي لسقف الديون بفارق صوت واحد فقط الشهر الماضي بفضل أغلبيته الضئيلة، رغم أنه قدم تنازلات كبيرة لأعضاء كتلة الحرية اليمنية المتطرفة.
ومن المرجح أيضاً أنه لن يتمكن من تمرير أي صفقة تكون مرضية لبايدن والديمقراطيين في مجلس الشيوخ، في حين أن للجمهوريين كل الحق في السعي لخفض الإنفاق بعد أن اقتنصوا المجلس بسبب هذا الملف في انتخابات التجديد النصفي، فإن اختيارهم لمواجهة سقف الديون المالية قد ينطوي على عواقب وخيمة، وهناك فئة من الحزب الجمهوري داخل مجلس النواب ترى أن هذه التسوية تعد هزيمة، وهو الشعور الذي يبدو أنه تأجج بعدما قلل الرئيس السابق دونالد ترامب من أهمية تأثير التخلف عن السداد خلال حدث الـ«CNN تاون هول» الأسبوع الماضي.
وحذرت وزيرة الخزانة جانيت يلين من أنه إذا نفد النقد من الحكومة، فسيتعين عليها اختيار الفواتير التي يجب دفعها، ما يعني على سبيل المثال أن بعض المواطنين قد لا يحصلون على مزاياهم، أو أن الموظفين الحكوميين قد لا يحصلون على رواتبهم.
لا يملك مكارثي الكثير من عوامل الأمان السياسية، قد تكون إحدى طرق رفع سقف الديون هي بناء تحالف من الجمهوريين والديمقراطيين المعتدلين لعزل المتطرفين في حزبه، ولكن إذا فعل ذلك فقد يخسر منصبه الذي سعى من أجله لسنوات.
يقول مكارثي إن أي اتفاقية يجب أن تنطوي على متطلبات عمل جديدة لبعض المستفيدين من بعض المزايا الفيدرالية، لكن فيترمان، السيناتور الديمقراطي عن ولاية بنسلفانيا، حذر الثلاثاء من أن الخطة ستقطع المساعدات الغذائية لما يقرب من 40 ألف شخص داخل الولايات المتحدة.
قال فيترمان، «لا يمكنني بضمير حي أن أؤيد اقتراح سقف الديون الذي قد يدفع الناس إلى الفقر».
بعد أن ضغط على بايدن ليجلس على طاولة المفاوضات، يبدو من الواضح أن مكارثي يود أن يربك الرئيس مرة أخرى حيال الإنفاق في غضون عام أو نحو ذلك، في محاولة لإضعافه في توقيت حرج بالقرب من محاولة إعادة انتخابه، إذ يرغب العديد من الديمقراطيين في دفع هذه الصفقة، المحفوفة بالمخاطر السياسية، إلى ما بعد الانتخابات المقبلة.
هناك أيضاً مشكلة لوجستية، إذ يستغرق تمرير مشروع القانون من خلال مجلس الشيوخ ومن خلال مجلس النواب وإلى مكتب بايدن وقتاً، من المحتمل أن كلا المجلسين يمكن أن يصوتا على تمديد قصير الأجل لرفع سقف الديون لإتاحة الوقت لمزيد من المفاوضات، لكن قدرة مكارثي على الفوز ستصبح موضع تساؤل.
العالم يترقب
المخاطر السياسية لمغادرة بايدن البلاد قبل أسبوعين من حدوث أزمة مالية قد تكون ضارة جداً، إذا تعثرت المحادثات خلال الأيام القليلة المقبلة، فمن المرجح أن يتهمه الجمهوريون في إضاعة الوقت مع الأجانب أكثر من مراقبة مصالح الأميركيين، لكن التخلف عن السفر على الإطلاق سيشكل كارثة على سياسة الولايات المتحدة الخارجية، خاصة في الوقت الذي يريد فيه بايدن استخدام قمة مجموعة السبع للديمقراطيات الصناعية لتعزيز الدعم العالمي لأوكرانيا لمواجهة القوات الروسية.
ورغم أن مدة الجولة الزمنية ستتقلص، فمن غير المرجح أن يتعرض صديق مخلص مثل أستراليا للإهانة من جراء ذلك التقليص، في وقت أصبحت أستراليا أكثر من ركيزة للسياسة العسكرية الأميركية، لكن التأجيل يعني إلغاء قمة رباعية كانت ستعقد في سيدني بين زعماء اليابان والولايات المتحدة وأستراليا والهند.
وقال رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز إن المحادثات قد تستمر في اليابان، حيث سيكون زعماء الدول الأربع في عطلة نهاية الأسبوع.
يعلق الدبلوماسيون في آسيا أهمية كبيرة على ظهور الرؤساء الأميركيين شخصياً لتعزيز مزاعم واشنطن بأنها قوة إقليمية رئيسية، لذا فإن رحلة بايدن السريعة إلى اليابان ستكون موضع تقدير، لكن مسار الرحلة المختصر سيظل بمثابة ضربة لمكانة الولايات المتحدة، وسيؤدي إلى تعميق المخاوف من أن عدم الاستقرار السياسي الداخلي للولايات المتحدة سيهدد قوة بقائها العالمية.