تستثمر المدن ملايين الدولارات في تقييم وإعداد وتقديم عرضها إلى اللجنة الأولمبية الدولية، وتتراوح تكاليف التخطيط وتوظيف المستشارين وتنظيم الفعاليات والسفر اللازم باستمرار بين 50 مليون دولار و100 مليون دولار.
أنفقت طوكيو ما يصل إلى 150 مليون دولار على عرضها الفاشل لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية 2016، ونحو نصف هذا المبلغ لعرضها الناجح لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية 2020، في حين قررت تورونتو أنها لا تستطيع تحمل مبلغ الستين مليون دولار التي كانت تحتاج إليها لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية 2024.
بمجرد اختيار مدينة ما لاستضافة الألعاب، يكون أمامها نحو عقد من الزمان للاستعداد لتدفق الرياضيين والسياح، والواقع أن الألعاب الصيفية أكبر كثيراً، إذ تجتذب مئات الآلاف من السياح الأجانب لمشاهدة أكثر من عشرة آلاف رياضي يتنافسون في نحو ثلاثمائة حدث، مقارنة بأقل من ثلاثة آلاف رياضي يتنافسون في نحو مئة حدث خلال الألعاب الشتوية، والحاجة الأكثر إلحاحاً تتلخص في إنشاء أو تحديث المرافق الرياضية المتخصصة للغاية مثل مسارات ركوب الدراجات وساحات القفز على الجليد، والقرية الأولمبية، ومكان كبير بما يكفي لاستضافة حفلي الافتتاح والختام.
وهناك أيضاً الحاجة إلى المزيد من البنية الأساسية العامة، وخاصة الإسكان والنقل، وتشترط اللجنة الأولمبية الدولية أن يكون لدى المدن التي تستضيف الألعاب الصيفية ما لا يقل عن أربعين ألف غرفة فندقية متاحة، وهو ما استلزم في حالة ريو تشييد خمسة عشر ألف غرفة فندقية جديدة، كما يتعين أيضاً تحديث أو بناء الطرق وخطوط القطارات والمطارات.
وتتراوح تكاليف البنية الأساسية هذه في المجمل بين 5 مليارات دولار إلى أكثر من 50 مليار دولار، وتبرر العديد من البلدان مثل هذه النفقات على أمل أن يستمر الإنفاق بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، على سبيل المثال ذهب نحو 85% من ميزانية أكثر من 50 مليار دولار لدورة الألعاب الأولمبية في سوتشي 2014 لبناء البنية الأساسية غير الرياضية من الصفر، وذهب أكثر من نصف ميزانية بكين 2008 البالغة 45 مليار دولار إلى السكك الحديدية والطرق والمطارات، في حين ذهب ما يقرب من ربعها إلى جهود التنظيف البيئي.
تشكّل تكاليف التشغيل جزءاً أصغر ولكنه لا يزال مهماً من ميزانية الألعاب الأولمبية للمضيفين، وتصاعدت تكاليف الأمن بسرعة منذ هجمات 11 سبتمبر، أنفقت سيدني 250 مليون دولار في عام 2000 بينما أنفقت أثينا أكثر من 1.5 مليار دولار عام 2004، وظلت التكاليف تتراوح بين مليار دولار وملياري دولار منذ ذلك الحين، (كانت أعلى من ذلك خلال جائحة كوفيد-19 في عام 2022، عندما أنفقت طوكيو 2.8 مليار دولار للوقاية من الأمراض وحدها).
كما أن ما يسمى بالفيل الأبيض أو المرافق الباهظة الثمن، والتي بسبب حجمها أو طبيعتها المتخصصة، يكون استخدامها محدوداً بعد الألعاب الأولمبية، وغالباً ما تفرض هذه المرافق تكاليف لسنوات قادمة، يكلف ملعب سيدني الأوليمبي المدينة 30 مليون دولار سنوياً لصيانته.
تكلفة بناء ملعب «عش الطائر»
وبلغت تكلفة بناء ملعب «عش الطائر» الشهير في بكين 460 مليون دولار، ويتطلب 10 ملايين دولار سنوياً لصيانته، وظل غير مستخدم في الغالب بعد ألعاب 2008، حتى استخدمته المدينة مرة أخرى لاستضافة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022، وتقريباً جميع المرافق التي تم بناؤها لدورة الألعاب الأولمبية في أثينا 2004، والتي أسهمت تكاليفها في أزمة الديون اليونانية، أصبحت الآن مهجورة.
وفي مونتريال، غالباً ما يُطلق على الملعب الأوليمبي المعروف باسم Big O اسم Big Owe بسبب تكاليفه الهائلة، وعام 2024، قالت حكومة كيبيك إنها ستنفق 870 مليون دولار لاستبدال سقف الملعب النادر الاستخدام للمرة الثالثة، ما دفع المنتقدين إلى الضغط من أجل هدمه.
ويقول خبراء الاقتصاد إن التكاليف الضمنية للألعاب لا بد أن تؤخذ في الاعتبار أيضاً، وتشمل هذه التكاليف الفرصة المترتبة على الإنفاق العام الذي كان من الممكن إنفاقه على أولويات أخرى، ذلك أن خدمة الديون المتبقية بعد استضافة الألعاب قد تثقل كاهل الميزانيات العامة لعقود من الزمان؛ فقد استغرق الأمر حتى عام 2006 لكي تتمكن مونتريال من سداد آخر ديونها من دورة الألعاب الأولمبية لعام 1976، في حين ساعدت مليارات الدولارات التي تراكمت على اليونان في دفع البلاد إلى الإفلاس.
وتشير تقديرات الخبراء إلى أن تكاليف الديون والصيانة لدورة الألعاب الشتوية في سوتشي 2014 ستكلف دافعي الضرائب الروس نحو مليار دولار سنويا في المستقبل المنظور، ولكن في حين يرى البعض في سوتشي أن الملاعب غير المستخدمة والمرافق المبنية بشكل مفرط تشكّل إهداراً للمال، يزعم سكان آخرون أن الألعاب حفّزت الإنفاق على الطرق وأنظمة المياه وغير ذلك من السلع العامة التي ما كانت لتحدث لولا ذلك.
كيف تتم مقارنة الفوائد بالتكاليف؟
ومع ارتفاع تكاليف الاستضافة، لم تعد الإيرادات تغطي سوى جزء ضئيل من النفقات، فقد حققت دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي أقيمت في بكين عام 2008 إيرادات بلغت 3.6 مليار دولار، مقارنة بتكاليف تجاوزت 40 مليار دولار، وحققت دورة الألعاب الصيفية المتأخرة في طوكيو إيرادات بلغت 5.8 مليار دولار وتكاليف بلغت 13 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، لا تذهب أغلب الإيرادات إلى الدولة المضيفة، إذ تحتفظ اللجنة الأولمبية الدولية بأكثر من نصف إجمالي إيرادات البث التلفزيوني، وهي عادة أكبر حصة من الأموال التي تولدها الألعاب.
إن الدراسات التي أجرتها الحكومات المضيفة قبل الألعاب أو كلفت بها، تؤكد في كثير من الأحيان أن استضافة الحدث من شأنها أن توفر دفعة اقتصادية كبرى من خلال خلق فرص العمل، وجذب السياح، وتعزيز الناتج الاقتصادي الإجمالي، ولكن الأبحاث التي أجريت بعد الألعاب تظهر أن هذه الفوائد المزعومة مشكوك فيها.
في دراسة أجريت على دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في مدينة سولت ليك عام 2002، على سبيل المثال، وجد ماثيسون، بالاشتراك مع الخبيرين الاقتصاديين روبرت بومان وبريان إنجلهاردت، أن الدورة أدت إلى زيادة قصيرة الأجل في عدد الوظائف بمقدار سبعة آلاف وظيفة إضافية، أي نحو عُشر العدد الذي وعد به المسؤولون، ولم تحدث زيادة طويلة الأجل في عدد الوظائف.
وكما توضح دراسة أجراها البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، فإن الوظائف التي تخلقها أعمال البناء في الألعاب الأولمبية غالباً ما تكون مؤقتة، وما لم تكن المنطقة المضيفة تعاني ارتفاع معدلات البطالة، فإن الوظائف تذهب في الغالب إلى العمال الذين يعملون بالفعل، الأمر الذي يخفف من تأثيرها في الاقتصاد الأوسع نطاقاً.
كما وجد خبراء الاقتصاد أن التأثير في السياحة مختلط، حيث إن الأمن والازدحام وارتفاع الأسعار التي تجلبها الألعاب الأولمبية تثني العديد من الزوار، ويُستشهد ببرشلونة، التي استضافت الألعاب في عام 1992، كقصة نجاح سياحي، حيث ارتفعت من المركز الحادي عشر إلى السادس كأكثر الوجهات شعبية في أوروبا بعد الألعاب الصيفية هناك، وشهدت سيدني وفانكوفر زيادات طفيفة في السياحة بعد استضافتهما، لكن بادي وماثيسون وجدا أن بكين ولندن وسولت ليك سيتي شهدت جميعها انخفاضاً في السياحة خلال السنوات التي استضافت فيها الألعاب.
في البرازيل، أول دولة في أمريكا الجنوبية تستضيف الألعاب الأولمبية، تجاوزت تكلفة ألعاب 2016، 20 مليار دولار، حيث تحملت مدينة ريو وحدها ما لا يقل عن 13 مليار دولار. وفي مواجهة الركود العميق الذي تعاني منه البلاد، احتاجت ريو إلى خطة إنقاذ بقيمة 900 مليون دولار من الحكومة الفيدرالية لتغطية تكلفة مراقبة الألعاب الأولمبية، وكانت غير قادرة على دفع رواتب جميع موظفيها العموميين، كما اضطرت المدينة إلى الاستثمار بكثافة في مجموعة واسعة من البنية الأساسية، والتي كانت تهدف إلى تنشيط بعض أحيائها المتعثرة، ولكن في أعقاب ذلك تم التخلي عن معظم الأماكن أو بالكاد يتم استخدامها.
في نهاية المطاف، لا يوجد سوى القليل من الأدلة على التأثير الاقتصادي الإيجابي الشامل، فقد نشر المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية نتائج تشير إلى أن الاستضافة لها تأثير إيجابي على التجارة الدولية للبلد، لكن الاقتصاديين ستيفن بيلينجز وسكوت هولاداي لم يجدا أي تأثير طويل الأجل للاستضافة على الناتج المحلي الإجمالي للبلد.
كيف أثّر الوباء في تكلفة دورة طوكيو؟
بلغت تكلفة استضافة الألعاب 13 مليار دولار، وفقاً لوكالة حكومية يابانية مستقلة، وهو أكثر من ضعف ما توقعه المنظمون عندما فازت اليابان بمهام الاستضافة عام 2013. ومع ذلك، كانت التكلفة النهائية أقل من نصف ما توقعه المراجعون عام 2019، ومتماشية مع التكاليف التي تكبدتها الدول المضيفة الصيفية الأخيرة.
(يقول خبراء الاقتصاد إن هذا الرقم يستبعد تكاليف الأرض والنقل، حيث يبلغ الإجمالي الحقيقي ما بين 19 و34 مليار دولار).
ارتفعت التكاليف جزئياً لأن قيود الوباء تطلبت استبعاد المتفرجين، ما أدى إلى القضاء على ما يقدر بنحو 800 مليون دولار من الدخل من مبيعات التذاكر وتسبب في إلغاء مئات الآلاف من حجوزات الفنادق، كما اضطرت المدينة إلى الاستثمار بكثافة في البنية التحتية، والتي كان الكثير منها مشكوكاً في فائدتها على المدى الطويل.
وبلغت تكلفة بناء أماكن جديدة ما يقدر بنحو 3 مليارات دولار، بما في ذلك 1.4 مليار دولار لملعب وطني جديد ظل فارغاً أثناء الألعاب، وستخصخص طوكيو الملعب في أبريل 2025، بعد أن باعت حق تشغيله لمدة ثلاثين عاماً مقابل ربع تكاليف بنائه فقط.
ما التكاليف المحتملة لدورة باريس 2024؟
خصصت باريس نحو 8 مليارات دولار لدورة الألعاب الأولمبية 2024 عندما فازت باستضافة الدورة عام 2017، ومنذ ذلك الحين، زادت المدينة ميزانيتها بعدة مليارات من الدولارات. ووفقاً لتحليل أجرته شركة ستاندرد آند بورز جلوبال للتصنيفات الائتمانية، يتم تقسيم التكاليف بالتساوي نسبياً بين نفقات التشغيل والبنية التحتية الجديدة. وإذا ظلت التكلفة النهائية عند هذا المستوى، فستستضيف باريس أرخص دورة ألعاب صيفية منذ عقود.
ويقول المنظمون إن القرار بالاعتماد بشكل شبه كامل على الملاعب القائمة، مثل تلك التي بُنيت لاستضافة بطولة فرنسا المفتوحة السنوية وبطولة أوروبا لكرة القدم 2016، ساعد على خفض التكاليف، كما ستُقام الألعاب في ملاعب في مدن فرنسية أخرى، بما في ذلك ليون ومرسيليا ونيس، لكن باريس أنفقت 4.5 مليار دولار على البنية الأساسية، بما في ذلك 1.6 مليار دولار لقرية الألعاب الأولمبية، التي يزيد سعرها بنحو الثلث على الأقل عن الميزانية الأصلية.