حرب النماذج اللغوية الكبيرة.. ديبسيك ضد شات جي بي تي
استطاعت شركة «ديبسيك» الصينية ضرب أسهم التكنولوجية العالمية بهزة هوت بأسعارها بنسب تجاوزت نسبة 10%، وفقدت الأسواق الأميركية ما يقارب 1.2 تريليون دولار، بينما خسرت شركة «إنفيديا» وحدها ما يساوي 589 مليار دولار في يوم واحد من قيمتها السوقية، ولم يسلم أحد من تلك الضربة إلا ما رحم ربي، وأصبحت «ديبسيك» التطبيق الأول تنزيلاً في أبل ستور متجاوزة «شات جي بي تي» وغيرها، لكن ما الذي يميز «ديبسيك» عن «O1» من أوبن إيه آي؟ ولماذا كل هذا الهلع؟ وهل تتمكن الصين من الهيمنة على الذكاء الاصطناعي بطرح «ديبسيك» في العالم؟
مقارنة ديبسيك بالنماذج اللغوية الكبيرة الحالية في السوق
يتفق مستخدمو ChatGPT وDeepSeek على أن نموذج OpenAI لا يزال يتفوق في المخرجات الإبداعية مثل الصور والصوت، بالإضافة إلى المعلومات المتعلقة بالأخبار والأحداث الجارية، لكن الرأي العام هو أن DeepSeek يتفوق في المهام التقنية، فإذا كنت تستخدم نماذج المحادثة في التفكير المنطقي، البرمجة أو حل المعادلات الرياضية، فقد تجد مخرجات DeepSeek أفضل، حيث تفوق ديبسيك R1 في اختبارات التفكير الرياضي على النماذج الأخرى، وحقق نسبة 97.3% في معيار MATH-500 مقابل 96.4% في O1 أوبن أيه آي، أما بالنسبة لمعظم الاستفسارات الأخرى، فيبدو أن كلا النموذجين متساوٍ تقريباً في المخرجات، حتى هذا التساوي يمثل أخباراً سيئة لـOpenAI وChatGPT، لأن DeepSeek مجاني بالكامل لمعظم حالات الاستخدام، بينما يحتاج مستخدمو O1 العاديون إلى الاشتراك في الخطة المدفوعة مقابل 200 دولار شهرياً، بالنسبة للشركات التي تستخدم واجهات برمجة التطبيقات لنماذج الذكاء الاصطناعي، قد يكون فرق السعر بين نموذجين متكافئين تقريباً كبيراً لدرجة تدفعها للتحول إلى DeepSeek.
يعد نموذج "ديبسيك" الأخير، R1، بمثابة السكين السويسري في عالم الذكاء الاصطناعي؛ فعال، ومتعدد الاستخدامات، وقوي بشكل مدهش، يستخدم بنية مزيج من الخبراء (MoE)، حيث يتم تفعيل 37 مليار فقط من أصل 671 مليار من القيم القابلة للتعديل (Parameters) في كل نموذج فرعي (Distalled)، وهذا يشبه وجود فريق من الخبراء على أهبة الاستعداد، جاهزين للتدخل عند الحاجة فقط، ما يوفر الوقت والموارد، في المقابل، يعتمد «شات جي بي تي»، خاصة نسخته GPT 4، على بنية المحولات التقليدية التي تستهلك الموارد بشكل كبير، بمعنى أبسط تعالج «شات جي بي تي» البيانات كافة، ولذلك تحتاج إلى حجم حوسبة ضخم في مراكز بيانات لديها عشرات الآلاف من رقائق كارت الشاشة من شركة إنفيديا، وهو شيء لا يمكن للصين تحقيقه بسبب حظر حصولها على تلك الرقائق، لذلك وجدت «ديبسيك» الحل في تحسين أداء الخوارزميات، واستطاعت قلب الطاولة لعدم حاجتها لاستخدام المعلومات كافة لتوليد إجابة.
كما يلاحظ أن النموذج الصيني حسن بشكل كبير على سلاسل التفكير Chain of thinking، حيث استطاع النموذج سرد شرح مفصل عن كيفية بناء لعبة الحية، بكل الأشكال والأحجام والألوان وحتى أسلوب الحركة وكيفية اللعب، ما يتيح للنموذج الصيني بناء برامج وحلول تقنية أفضل من مثيلاتها الأميركية.
وبالرغم من احتمال استخدام ديبسيك لشرائح إنفيديا قديمة H800 أو حتى الاستعانة بنموذج O1 للتدريب، فإن الحقيقة أنه ذكاء صيني يحسب لهم، فلماذا لم تفعل Xai أو Google Gemini الحركة نفسها ولجأت لهدر مئات المليارات.
كيف يتفوق ديبسيك على الآخرين؟
السلاح السري لديبسيك الكفاءة في التكلفة، بينما تنفق الشركات الأميركية مئات المليارات من الدولارات كأنها قصاصات ورق في موكب تقني، تمكن ديبسيك من تحقيق سحر الذكاء الاصطناعي بميزانية متواضعة تبلغ 6 ملايين دولار فقط.
نموذج ديبسيك مفتوح المصدر، المتاح بموجب ترخيص MIT، يعني أن أي شخص يمكنه تنزيله على أجهزته الخاصة واستخدامه مجاناً وحتى تخصيصه لما يرغب بتحقيقه من الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ذلك، فإن قدرته على التعامل مع نوافذ السياق الطويلة التي تصل إلى 128 ألف رمز (Tokens) تجعله مثالياً للمهام التي تتطلب معالجة كمية كبيرة من المعلومات.
مَن سيفوز في المنافسة؟
المواجهة بين ديبسيك وشات جي بي تي ليست مجرد مسألة تكنولوجيا، إنها أيضاً دراما جيوسياسية، وأضاف ديبسيك تعقيدات كبيرة على الصراع الصيني الأميركي، يشبه الأمر لعبة شطرنج بأسلحة نووية في عالم الذكاء الاصطناعي، تطرقت سابقاً بشرح مفصل عن قوة المنافسة بين الصين والولايات المتحدة في مقال «حرب عالمية ثالثة، أم طعم آخر من البرغر والنودلز؟»، وأعتقد أن النودلز الصيني قال كلمته وفرض قوته بأنه قادر على تصدر المشهد، حتى لو مُنع من الحصول على رقائق إنفيديا.
تخيل عالم الذكاء الاصطناعي كأرض ميدل إيرث، مليئة بالكيانات القوية والمهام الملحمية، في هذا العالم يشبه شات جي بي تي ساورون القوي، الذي يمتلك قوة وموارد هائلة، مدعوماً بقدرات الولايات المتحدة الهائلة، في المقابل يدخل ديبسيك، الهوبيت المتواضع من الصين، بميزانية لا تكفي حتى لشراء سيف لائق في ريفينديل.
على الرغم من حجمه الصغير وموارده المحدودة، ينطلق ديبسيك، مثل فرودو، في مهمة جريئة لتحدي الوضع الراهن، بينما يعتمد شات جي بي تي على جيوشه الهائلة من المعلومات والقوة المالية لداعميه، يستخدم ديبسيك استراتيجيات ذكية وتكنولوجيا مبتكرة لترك بصمته.
مع تطور القصة، يفوز نهج ديبسيك الفعال من حيث التكلفة والمصدر المفتوح، ويفتح المجال للكثير من المؤسسات البحثية والجامعات والطلاب لاستخدامه على أجهزة بسيطة، دون الحاجة لمراكز بيانات ضخمة.
الخاتمة
التنين الصيني قادر على المنافسة ويقدم للعالم حلولاً مبتكرة بجيش تقني يصل إلى 7 ملايين مبرمج ومتخصص في عالم الذكاء الاصطناعي، النموذج الصيني ديبسيك قدم حلاً تقنياً بمهنية عالية، لأن يكون طرحه لنموذج مفتوح المصدر ونشر الورقة البحثية بكل شفافية، وهذا إشارة بأنه ليس النموذج الأخير وأن القصة بدأت الآن، فإن حرب النماذج اللغوية الكبيرة لم تنتهِ، وبالرغم من أن ديبسيك قلب الطاولة على النماذج الأميركية، فإن الولايات المتحدة تعي بوضوح أن الكرة أصبحت في ملعبها وعليها الرد باستخدام الكثير مما يميزها ويجعلها قادرة على بناء نماذج أفضل وبسرعة.
وأخيراً أُنهي مقالي بسؤال، إلى أين سيذهب بنا الذكاء الاصطناعي، حرب عالمية ثالثة أم توفير مستوى أفضل للمعيشة البشرية؟
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.