لطالما استحوذ الترميز -وهي عملية يُمكن من خلالها تسجيل وتداول أي أصل تقريباً، بما في ذلك العقارات التجارية والأعمال الفنية، من خلال «البلوكتشين»- على اهتمام التقنيين والممولين على حدٍّ سواء.. في الواقع، بدأ افتتان المستثمرين بالترميز منذ عام 2017 تقريباً حينما أصبح مفهوم الأصول الرقمية «الجزئية» رائجاً خلال موجة عروض العملات الأولية (ICO).. وقد بدا السرد دائماً لا يقاوم؛ إذا استطعنا تقسيم الأصول الكبيرة وغير السائلة إلى أجزاء أصغر («رموز») فيمكننا فتح الباب أمام استثمارات كانت سابقاً بعيدة المنال، وربما نشهد «دمقرطة حقيقية للتمويل».
تتفاوت التقديرات بشأن حجم سوق الأصول المرمّزة، إلا أن مؤسساتٍ كبرى مثل «ماكنزي» و«سيتي» و«ستاندرد تشارترد» قد تتراوح قيمتها بين 2 و30 تريليون دولار خلال العقد المقبل، وعلى الرغم من أن هذه الأرقام لا تزال تمثّل جزءاً صغيراً من الأسواق التقليدية فإنها تعكس توقّعاتٍ جريئة مُقارنةً بحجم السوق الحالي البالغ نحو 12 مليار دولار فقط، باستثناء «العملات المستقرة»، التي تتركز إلى حدٍّ كبير في الأدوات الائتمانية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
حتّى الآن، استفادت المؤسّسات الماليّة بشكلٍ رئيسي من هذه التقنية، من خلال تسهيل عمليّاتها الداخلية تدريجياً.. ولكن، لا تزال المسألة الجوهريّة -الامتثال التنظيمي- بانتظار المعالجة، فلم تعد العقبة تتعلّق بقدرة تكنولوجيا البلوكتشين على حفظ السجلات؛ إذ إن التحدّي اليوم يكمن في الامتثال، لا في البرمجة.
فإذا أردنا أن يستفيد المستثمر العادي حقاً من الملكية الجزئية لناطحات السحاب أو الأراضي الزراعية، فنحن بحاجة إلى إطار تنظيمي متين، بالإضافة إلى دفع الحدود القانونية، مثل الاعتراف بسجلات «البلوكتشين» كدليل قانوني على الملكية.. وإلا، فإننا نصمم حلولاً تكنولوجيّة رائعة ستبقى عالقة في مناطق رمادية قانونياً، أو تتجاوز الأنظمة القائمة بطرق قد تترك المستثمرين الأفراد دون حماية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
الموجة الثالثة من الترميز
يمكننا تسمية هذه المرحلة بـ«الموجة الثالثة» من تبنّي الترميز؛ جاءت الموجة الأولى مع الزخم الذي شهدته العملات الرقمية بين عاميّ 2016 و2018، وتلتها الثانية بقيادة التمويل اللامركزي (DeFi) بين عاميّ 2019 و2021، حين ظهرت منصّات جديدة لتداول جميع أنواع التوكنات، أما الثالثة، التي بدأت في 2022، فهي بداية دخول المؤسسات واعتماد ترميز الأصول «الحقيقية» (RWA).
وقد بدأت أسماء راسخة مثل «بلاك روك» و«جي بي مورغان» و«فيديليتي» بتجربة هذا المجال، كما برزت «البيئة التنظيمية التجريبية للأوراق الرقمية» في المملكة المتحدة كمنارة للتجربة، رغم أنه يتوجّب على أي «بيئة تجريبيّة» أن تفسح المجال لأنظمة دائمة وكاملة، إذا ما أردنا للشركات الناشئة والمؤسسات الكبرى أن تُغامر بدخول المجال.
ومع ذلك، رغم انخراط اللاعبين الكبار، يبقى السؤال الأهم مطروحاً: هل سيصل الترميز أخيراً إلى مرحلة التبنّي الجماهيري ويحقق وعده بالسماح للمستثمرين الصغار بامتلاك حصص من أصول عادةً ما تكون صعبة الوصول؟ نحن لا نزال في المراحل الأولى من هذه الرحلة، وحالياً، غالباً ما تنتهي حلول الترميز بوصفها مجرد «غلاف رقمي» للوثائق التقليدية، بدلاً من أن تكون أوراقاً مالية «على شبكات البلوكتشين» و«مولودة على البلوكتشين».. بعبارةٍ أُخرى، نحن نستمرّ في إضافة طبقاتٍ جديدة بدلًا من إعادة ابتكار عمليّة إنشاء الأصول من الصفر.
أساسيّات الترميز.. لمحة سريعة
في جوهره، يُمثّل الترميز توظيف تكنولوجيا البلوكتشين كسجلّ توثيق رقمي، يعتمد غالباً على «عقود ذكية» تحدد الحقوق والالتزامات القانونية للأطراف المعنية.
وتُعد هذه التقنية جذابة على الصعيد الفكري لما تتيحه من آفاق واسعة لعقد صفقات غير تقليدية؛ فمن الناحية النظرية، تتيح للمستثمرين على اختلاف مستوياتهم الوصول إلى صفقات في الأسهم الخاصة، أو مشاريع البنية التحتية، أو العقارات مرتفعة القيمة، والتي كانت تتطلب تقليدياً استثمارات بملايين الدولارات أو علاقات حصرية.
ومع نجاح الترميز في خفض تكاليف الدخول وتقليل التعقيدات، قد تصبح فرص التنويع متاحة أمام الجميع.
الواقع الفعلي
لماذا لا نجد محافظ الجميع مليئة بحصص مرمّزة من الأبراج التجارية؟ لأن معظم المنصات التي تتيح الوصول إلى الأصول المرمّزة، رغم ما تحمله من ابتكار، لا تزال تعمل في الغالب خارج أطر قانونية صارمة، أي ضمن منطقة رمادية من حيث الامتثال، أما المنصات التي تلتزم بالتشريعات فإن «الأوراق المالية المرمّزة» التي تصدرها غالباً ما تبقى مرتبطة بأنظمة ورقية تقليدية، فقد يُمثّل الرمز حصة في مبنى، لكنه يظل مستنداً إلى عقدٍ ورقيٍّ موقع يدوياً ومسجّل لدى مكتب السجل العقاري، هذا النموذج لا يُلغي الإجراءات القديمة بل يعيد إنتاجها بصورة رقمية.
يمكن وصف هذه الأدوات بـ«المشتقّات الرقمية»، أو «توريق رقمي بواجهة جديدة» إن شئتم، وهي ملائمة للمؤسسات الكبرى لأنها لا تتطلب تعديل القوانين العقارية الراسخة أو إحداث تغييرات جذرية في فرق الامتثال، ولكن هذا يعني أيضاً أننا لم نستفد بعد من الإمكانات الكاملة لتقنية «البلوكتشين».
فالنقلة الحقيقية تحدث مع ما يُعرف بـ«رموز الأوراق المالية»، حيث يولد الأصل على البلوكتشين، وتصبح الشبكة ذاتها -لا العقد الورقي- هي المصدر الوحيد والنهائي للحقيقة، ففي حالة العقارات، يجب أن يتم توثيق الملكية، وتنفيذ عقود الإيجار، بل وحتى توزيع الدخل الإيجاري، عبر العقد الذكي، وعند الرغبة في بيع الحصة، لا حاجة لتوقيع مستندات أو الحصول على موافقة وسيط؛ إذ يمكن للرمز أن يُنقل بسلاسة إلى مشترٍ مُتوافق مباشرةً عبر البلوكتشين.
البنية التحتية المتوافقة مقابل أحلام اللامركزية
بطبيعة الحال، يتطلّب تحقيق هذا المستقبل وجود بنية تحتيّة أفضل، بدءاً من حلول الهوية الرقمية ووصولاً إلى أسواقٍ قادرة على التعامل مع تداولات الأفراد على مدار الساعة، كما أنه قد يتحفّظ أنصار اللامركزية على الإفصاح عن معلوماتٍ شخصية، رغم أن الأسواق الشرعية تحتاج على الأقل إلى إجراء بعض فحوصات «اعرف عميلك» (KYC) وفرض إشرافٍ تنظيميّ.
وحتى يتوفر هذا النظام على نطاق واسعٍ -وجود «بيئة تجريبيّة» أو مشروع تجريبي لدى بنكٍ كبير لا يكفي- ستظلّ فكرة الترميز السلس، المتوافق بالكامل، أقرب إلى الخيال.
والأهم من ذلك -وبكل شفافية- أن كثيراً من الشركات الكبرى تنظر إلى الترميز كأداة لتبسيط عملياتها الداخلية وتقليص النفقات، لا كوسيلة لتمكين وصول أوسع وأكثر عدالة.
ومع ذلك، قد يُشكّل هذا بالفعل أول موجة تَبنٍّ حقيقية، والتي تعدّ بمثابة «ثورة صامتة» خلف الكواليس، حيث تتم التسويات البنكية في غضون ثوانٍ بدلاً من أيام، وبجزءٍ بسيط من التكلفة المعتادة.. والمفارقة أن هذه التقنية ذاتها -رموز الأوراق المالية المعترف بها قانونياً- قد تؤدي بمرور الوقت إلى تقليص دور الوسطاء، وبالتالي تقويض نماذج الإيرادات القائمة على الرسوم.
ورغم ذلك، إذا تم تنفيذ هذا التحوّل بالشكل الصحيح، فسيُمهّد الطريق أمام المستثمرين الأفراد للوصول إلى فرص تنويع حقيقية، بعيداً عن التعقيدات الورقية، والرسوم المرهقة، والحواجز العشوائية التي طالما أعاقت دخولهم إلى الأسواق.
إلى أين نتجه؟
السؤال لم يعد ما إذا كانت التكنولوجيا قادرة على العمل، فهي أثبتت كفاءتها بالفعل، بل السؤال الحقيقي هو: هل سيتمكن المنظّمون والجهات الفاعلة في السوق من تجاوز مرحلة «الأوراق المرمّزة جزئياً» والوصول إلى «رموز أوراق مالية» أصيلة، تولّد بالكامل على البلوكتشين؟ فعندما يتحقق ذلك، ستُصبح المعاملات المباشرة بين الأفراد أكثر سلاسة، وتنخفض تكاليف الإصدار والتوزيع بشكل جذري، وتتلاشى الكثير من الاحتكاكات التي طالما ميّزت النظام المالي التقليدي.
وبطبيعة الحال، فإن الوصول إلى هذه المرحلة لن يكون نهاية المطاف، بل بداية لتحديات جديدة تماماً: هل هذه الأصول الجديدة مناسبة فعلاً للمستثمرين الأفراد؟ هل تضيف قيمة حقيقية إلى المحافظ الاستثمارية؟ وهل سيكون هناك عدد كافٍ من المتعاملين لضمان سيولة حقيقية وآلية فعالة لاكتشاف الأسعار؟ من الحكمة أن نتقدم خطوة بخطوة.. والبداية تكمن في سد فجوة الامتثال؛ فالتكنولوجيا أثبتت جدارتها في ساحة التمويل اللامركزي، وقد بدأ الآن عصر الجمع بين الابتكار الرقمي والإطار المؤسسي -أوراق مالية رقمية النشأة تخضع لتنظيم مسؤول- وربما يكون هذا هو الطريق لتحقيق الوعد الأصلي للترميز.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.
لوك فرويليش، المدير التجاري في «واحة رأس الخيمة للأصول الرقمية» (RAK Digital Assets Oasis)، والرئيس العالمي السابق للأصول الرقمية في «فيديليتي إنترناشيونال»، ومستشار في مجال الترميز منذ عام 2019.