أسواق المستقبل.. كيف أصبحت البيانات العملة الصعبة في الاقتصاد العالمي؟

wwweee
أسواق المستقبل.. كيف أصبحت البيانات العملة الصعبة في الاقتصاد العالمي؟
wwweee
طالع الأسمري clock

طالع الأسمري

كاتب ومستشار في مبادرات التنمية المستدامة والتميز المؤسسي

في عالمنا اليوم، لم تعد الأسواق تُقاس بحجم الإنتاج أو المخزون، بل من خلال القدرة على التفكير المبدع وصياغة الأفكار الجديدة، برز مفهوم جديد يغيّر موازين الاقتصاد: «الاقتصاد اللامادي» (Intangible Economy)، إذ لم يعد الأمر يتعلق بما نمتلكه من مواد، بل بما نحمله من أفكار وقيم ذهنية، في هذا السياق الجديد، يلعب العقل دوراً حاسماً في توليد القيمة وتحريك عجلة الاقتصاد.

ووفقاً لتقرير صادر عن شركة Ocean Tomo الاستشارية، بلغت نسبة الأصول غير الملموسة 90% من إجمالي القيمة السوقية لشركات مؤشر S&P 500 في عام 2020، مقارنة بـ17% في عام 1975، هذه الأرقام لا تمثل مجرد تغير بسيط في أساليب ونهج الأعمال، وتعكس بجلاء تحولاً جوهرياً في طريقة قياس الثروة، حيث لم تعد القيمة تُولد في المصانع والمعامل التقليدية، بل في الابتكارات الذهنية والخوارزميات المتقدمة.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

يتسع نطاق الاقتصاد اللامادي بشكل متسارع، حيث لم تعد الجغرافيا تحد من انتشاره، ولا تعرقله عقبات اللوجستيات، تطبيق رقمي يُنشأ في الرياض يمكنه أن يحقق انتشاراً عالمياً ينافس منصات راسخة في وداي السيلكون، فالفكرة الجيدة والنوعية تتخطى الحدود بلا جمارك، ما يمنح الشركات الناشئة ميزة تنافسية كبيرة، هنا يبرز دور الذكاء والابتكار كأدوات أساسية لتحقيق النجاح في سوق تُقدّر الذكاء أكثر من القوة، والمحتوى النوعي أكثر من الحجم.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

قابلية التوسع الهائلة تتيح لفكرة واحدة أن تصل إلى ملايين المستخدمين من دون الحاجة إلى فرع واحد وتكاليف تشغيلية مستدامة، كما تنخفض التكاليف الثابتة بشكل كبير، فلا حاجة للشحن أو التخزين أو سلاسل الإمداد، الابتكار المتكرر أحد أسرار هذا الاقتصاد حيث لا حدود لإعادة التحديث ولا سقف لتجديد القيمة.

وعلى الرغم من التقدم الهائل الذي أحرزه، لا يخلو الاقتصاد اللامادي من تحديات ومخاطر من بينها صعوبة تقييم الأصول اللامادية بدقة، ما قد يؤدي إلى فقاعات مالية محتملة، يتجلى الاحتكار الرمزي عندما تحتكر الشركات الكبرى ليس فقط التقنية، بل المفاهيم نفسها، ما يجعلها تتحكم بالسوق بشكل غير مرئي، حيث لا تكتفي الشركات الكبرى باحتكار التقنية، فمن يملك البيانات يتحكم بالسوق، ويكتب قواعده، نحن لا نتحدث فقط عن هيمنة تجارية، بل عن تأثير غير مرئي وعابر للأسواق يُعاد به تشكيل وعي المستهلك وقراراته دون أن يشعر.

إلى جانب ذلك، تلوح في الأفق تحديات الحوكمة والامتثال، في عالم سريع التحوّل تقوده الأصول اللامادية، تزداد فرص التحايل على الأنظمة، والتهرب الضريبي، والتلاعب بمراكز الاستضافة العابرة للحدود، ضعف الأطر التنظيمية والرقابية في بعض الدول يخلق بيئة يمكن أن تُستغل لخلق ثروات ضخمة دون التزامات عادلة تجاه المجتمعات التي تنشأ فيها هذه القيمة.

أما الفجوة الرقمية فتبقى أحد أكبر التحديات وأكثرها إلحاحاً؛ إذ تشير تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر 2.6 مليار من سكان العالم غير متصلين بالإنترنت ومحرومين من الفرص الرقمية، إنها ليست فجوة في الاتصال فحسب، بل فجوة في الوصول، والمشاركة والتمكين الرقمي.

في الاقتصاد اللامادي، المهارة ليست امتيازاً بل ضرورة، الوظيفة لم تعد عقداً دائماً، بل أداءً مستمراً للقيمة، لم يعد السؤال ما وظيفتك؟ بل ما قيمتك؟ من يتقن تحليل البيانات أو تطوير البرمجيات والأنظمة أو خلق تجربة مستخدم ناجحة، وغيرها من المهارات، يُعد ثروة متنقلة، تصنع الفرق، في أسواق غير ملموسة.

المؤسسات الواعية، سواءً كانت حكومية أو تعليمية أو تدريبية، تدرك تماماً هذا التحول المستدام، لم يعد المطلوب تخريج أجيال تحمل وثائق وشهادات فقط، بل أجيال تملك القدرة على التفكير، التعلم الذاتي، التفكير النقدي، واكتساب مهارات التفكير العليا، والقدرة على التحرك في أسواق دائمة التغير.

هذا النوع من الاقتصادات يفتح آفاقاً أمام الدول والمجتمعات التي لا تملك موارد طبيعية، لكنه يشترط امتلاك العقل المنفتح، والبيئة الممكّنة، والمؤسسات القادرة على إطلاق الفكرة لا منتجاً، بل محرّكاً للنمو.

نحن أمام لحظة اقتصادية فارقة، حيث الثروة لم تعد حكراً على من يملك الأرض، بل على من يحسن تحويل اللامرئي إلى قيمة ملموسة، لم يعد المطلوب اللحاق بالعالم، بل أن نشارك في إعادة رسمه، الفرص اليوم ليست في مناجم الذهب فقط، بل في عقول البشر أيضاً.

من يملك الفكرة، يصنع المستقبل، ومن يحول اللامرئي إلى قيمة حقيقة، يملك الغد، وذلك الغد بدأ بالفعل منذ الأمس.

 تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.