في السنوات الأخيرة، شهدنا تحولاً جذرياً في النظرة إلى الفضاء الخارجي، من مجرد مجال للاستكشاف العلمي إلى ساحة استراتيجية للتنافس الاقتصادي والعسكري، أصبح الفضاء سوقاً عالمية ضخمة تتجاوز حدود الأرض، حيث تشير أحدث التوقعات إلى أن الاقتصاد الفضائي العالمي سينمو من 630 مليار دولار في عام 2023 إلى 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2035، بمعدل نمو سنوي مذهل يبلغ 9%، متجاوزاً بذلك معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، هذا النمو المتسارع يعكس الأهمية المتزايدة للفضاء كمجال استثماري حيوي ومحور للقوة الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين.
الثورة الفضائية الجديدة: من الاستكشاف إلى الهيمنة الاقتصادية
يشهد العقد الحالي طفرة غير مسبوقة في النشاط الفضائي، حيث تجاوز عدد الأقمار الصناعية النشطة في مدار الأرض عتبة الـ10,000 قمر صناعي حتى يوليو 2024، وتتصدر شركة «سبيس إكس» هذا السباق بواقع 6,111 قمراً صناعياً ضمن كوكبة «ستارلينك» وحدها، هذه الأقمار لم تعد مجرد أدوات للاتصالات التقليدية، بل أصبحت تشكل العمود الفقري للبنية التحتية الرقمية العالمية، حيث تقدم خدمات حيوية تشمل الإنترنت فائق السرعة، والملاحة الدقيقة، ومراقبة الأرض بدقة غير مسبوقة.
وتظهر البيانات أن سوق خدمات الأقمار الصناعية وحدها ستصل إلى 158 مليار دولار بحلول عام 2030، مع نمو خاص في قطاعات مثل الزراعة الدقيقة (حيث توفر الأقمار بيانات لتحسين المحاصيل)، وإدارة الكوارث (بمراقبة الحرائق والفيضانات)، وحتى التعدين الفضائي، وتستثمر دول الخليج بقوة في هذا المجال، حيث أطلقت الإمارات «مشروع 813» لتصنيع الأقمار الصناعية محلياً، بينما تعمل السعودية على تطوير مركز فضائي متكامل بقيمة 2.1 مليار دولار.
التحديات الأمنية: الفضاء ساحة حرب جديدة
لكن مع هذه الفرص تأتي تحديات أمنية غير مسبوقة، فقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن مدى هشاشة البنية التحتية الفضائية، حيث تعرضت أنظمة الاتصالات الفضائية لهجمات سيبرانية متطورة تهدف إلى تعطيل القدرات العسكرية والمدنية على حد سواء، وتشير تقديرات البنتاغون إلى أن عدد الهجمات السيبرانية على الأصول الفضائية زاد بنسبة 300% منذ عام 2020.
وأصبحت الحاجة إلى تعزيز الدفاعات السيبرانية للأقمار الصناعية أولوية قصوى، خاصة مع تزايد الاعتماد عليها في أنظمة الدفع الإلكتروني، والتحكم في الشبكات الكهربائية، وحتى إدارة أنابيب النفط والغاز، وتعمل دول مثل الولايات المتحدة واليابان على تطوير أنظمة دفاع فضائي متكاملة، بينما تستثمر شركات مثل «لوكهيد مارتن» مليارات الدولارات في تقنيات حماية الأقمار الصناعية.
فرص العمل والاستثمار: اقتصاد فضائي شامل
من ناحية أخرى، يخلق الاقتصاد الفضائي فرص عمل هائلة تتجاوز مجرد رواد الفضاء والمهندسين، فوفقاً لدراسات حديثة، سيولد قطاع الفضاء أكثر من 100,000 وظيفة جديدة في المملكة المتحدة وحدها بحلول عام 2030، تشمل تخصصات مثل تحليل البيانات الفضائية، وتطوير برمجيات الأقمار الصناعية، وحتى السياحة الفضائية.
وتظهر نماذج ناجحة مثل شركة «أستراسكا» الماليزية التي طورت أقماراً صناعية صغيرة بتكلفة منخفضة، أو «كيوا سبيس» النيوزيلندية التي تقدم خدمات مراقبة الأرض للدول النامية، وفي المنطقة العربية، تبرز تجربة مصر في تصنيع الأقمار الصناعية التعليمية بتكلفة لا تتجاوز 100 ألف دولار، ما يفتح المجال لدول أخرى للدخول إلى هذه السوق.
السيطرة على المستقبل: استراتيجيات للريادة الفضائية
تتمحور المنافسة الفضائية اليوم حول ثلاثة محاور رئيسية:
1) تطوير تقنيات الإطلاق المنخفضة التكلفة
2) بناء قدرات تصنيع الأقمار الصناعية محلياً
3) تأمين البنية التحتية الفضائية ضد الهجمات
وتظهر النماذج الناجحة أن الدول التي تستثمر في تعليم علوم الفضاء وتشجيع الشركات الناشئة في هذا المجال تكون في موقع الريادة، ففي الهند، أسهمت برامج تعليم تكنولوجيا الفضاء في المدارس في تخريج جيل جديد من المهندسين الذين يعملون الآن في شركات مثل «أجني كوربوريشين».
الفضاء لم يعد حكراً على الدول العظمى، بل أصبح ساحة مفتوحة للدول والشركات الطموحة، الدول العربية التي تستثمر اليوم في تعليم علوم الفضاء، وتطوير البنية التحتية التكنولوجية، وبناء الشراكات الدولية، ستكون في موقع يؤهلها لقيادة الاقتصاد الفضائي الجديد، والسؤال الآن ليس «هل نشارك في هذا السباق؟» بل «كيف نضمن موقعاً متقدماً في هذا الاقتصاد الذي سيحدد ميزان القوى في العقود القادمة؟»
الاستثمار في الفضاء اليوم هو استثمار في السيادة الاقتصادية والتكنولوجية للغد، فكما كانت السيطرة على البحار والمحيطات في القرون الماضية مفتاحاً للقوة العالمية، أصبحت السيطرة على المدارات الفضائية اليوم العامل الحاسم في تحديد القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.