الحقيقة التي يجب الاعتراف بها هي أن الأسواق لا تحب المفاجآت! وحين تتصارع أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم (أميركا والصين) في حلبة الاقتصاد، تصبح المشاريع الخضراء والتكنولوجيا النظيفة أول المتأثرين، لكن كيف حدث ذلك؟ وكيف يمكن أن تدفع الاستدامة ضريبة حرب تجارية لا تعترف بقواعد الأسواق أو مصالح التنمية؟
منذ أبريل 2025، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية فرض رسوم جمركية مشددة على وارداتها من المنتجات الصينية المرتبطة بالتكنولوجيا النظيفة، شملت السيارات الكهربائية بنسبة 100% والألواح الشمسية بنسبة 50%، وبطاريات الليثيوم بنسبة 25%، لم تتأخر بكين، فردّت سريعاً بفرض تعريفات مقابلة على صادرات أميركية حيوية أبرزها أشباه الموصلات وبعض المنتجات التكنولوجية الزراعية ذات الاستخدام التقني.
هذا التمركز الضخم يعني أن أي اضطراب في العلاقة التجارية مع بكين لا يؤثر فقط على التبادل الثنائي، بل يُهدد بارتباك واسع في سلاسل الإمداد المرتبطة بالتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، وهكذا باتت التقنيات الخضراء معلّقة على خيط رفيع بين قرارات جمركية متقلبة، وردود أفعال اقتصادية غير متوازنة.
من الناحية الاقتصادية البحتة، الأسواق دائماً ما تبحث عن اليقين والاستقرار، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي IMF 2024، تؤدي هذه التصعيدات التجارية إلى انخفاض في وتيرة الاستثمارات الموجهة للطاقة النظيفة والتقنيات الخضراء بنسبة تصل إلى 15% بحلول نهاية 2025، ما يعني تباطؤاً إضافياً في تحقيق أهداف التنمية المستدامة العالمية.
تخيّل معي مستثمراً أو شركة كبرى في أوروبا أو في أي دولة عربية، كيف سيخططون لمشاريعهم المستدامة في ظل غياب اليقين بشأن أسعار المواد الأولية أو استمرارية سلاسل التوريد؟
الجواب ببساطة: سيترددون، وإذا تردد المستثمر، تراجع السوق، وتباطأت وتيرة التنمية المستدامة، إن لم تتوقف بعض الوقت.
الأمر لا يتوقف عند حدود أوروبا وأميركا أو الصين فقط، فالاقتصادات النامية والناشئة، التي بدأت اللحاق بركب التكنولوجيا النظيفة، تواجه الآن تكاليف مضاعفة وصعوبة في الحصول على هذه التقنيات، ما يجعل تحقيق أهدافها في الطاقة المتجددة به من الصعوبة والتحديات في المدى المنظور على أقل تقدير.
في ذات السياق، وبحسب بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية USGS 2024، لا تزال الصين تسيطر على نحو 60% من إنتاج المعادن النادرة عالمياً، وتعمل على ما يقارب 85% من عمليات معالجتها، وفقاً لتقرير IEA لعام 2024، هذا يعني أن أي توجه جاد لتغيير هذه النسب سيستغرق وقتاً طويلاً وتكلفة ضخمة على الاقتصادات الكبرى، فما بالك بالأسواق الناشئة والاقتصادات الأقل نمواً؟
وهنا لا يمكن تجاهل الأسواق العربية والخليجية على وجه الخصوص، التي بدأت تستثمر بقوة في الطاقة النظيفة والتنمية الاقتصادية المستدامة؛ كيف ستتصرف أمام هذه التحديات؟
واقع الأمر أن الدول الخليجية تحديداً تملك القدرة المالية والمرونة الاقتصادية الكبيرة، ما يسمح لها بامتصاص هذه الصدمات بشكل أفضل من غيرها، ولكن لا يعني أنها لن تدفع بعض الكلفة في فاتورة ارتفاع الأسعار واضطراب سلاسل الإمداد.
المؤكد أن الأسواق تكره الغموض، وإذا استمرت هذه الحروب الاقتصادية بين اللاعبين الكبار في الأسواق، فإن ما يخشى هو أن تفقد الاستثمارات الخضراء بريقها الحالي ما يعني تراجعاً كبيراً في فرص الاقتصاد العالمي لتحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة، المسألة هنا اقتصادية بحتة، وترتبط بشكل مباشر بالسوق والتنمية والتخطيط المستقبلي للمشاريع، ولهذا فإن الحل لا يمكن أن يأتي إلا من خلال ضمانات حقيقية لاستقرار الأسواق العالمية والتكنولوجيا النظيفة.
أخيراً لا يمكن للتنمية المستدامة أن تترسخ في اقتصاد تهتز فيه سلاسل الإمداد مع كل هبّة جمركية تفرض! فالأسواق لا تُراهن على النوايا، بل على إشارات الثقة، والمستثمر لا يقرأ التقارير ولا ينتظر النصوص، بل يقرأ ما بين سطور السياسات والتشريعات.
وإن استمر ضباب اللايقين في خنق المشهد التجاري، فلن يكون أمام الأسواق سوى الانتظار، والانتظار في اقتصاد سريع الدوران.. هو التعريف الحقيقي للفرص الضائعة.