في زمن تتزايد فيه التحذيرات من تغير المناخ، تظل الجيوش حول العالم خارج دائرة الحساب البيئي، رغم كونها من أكبر المساهمين في الانبعاثات الكربونية، فالحروب لا تخلف دماراً بشرياً ومادياً فقط بل تدمر البيئة وغلافنا الجوي ودفعنا بقوة نحو المزيد من طقس الجحيم. وكما تلتزم الدول بخفض انبعاثات الصناعات المدنية وفق اتفاق باريس الشهير، لماذا تبقى الجيوش خارج نطاق هذا الاتفاق وإلى متى ستبقى محصنة ضد المساءلة وحسابات البصمة الكربونية؟
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
اتفاق باريس
في عام 2015 خرج للنور أول اتفاق دولي ملزم بضرورة الحفاظ على مناخ الأرض من أجل الأجيال المقبلة، وكان اتفاق باريس وهو اتفاق دولي بشأن تغير المناخ، تم اعتماده في ديسمبر 2015 خلال مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ COP21.
يهدف اتفاق باريس إلى الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى أقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة، مع السعي لخفضها إلى 1.5 درجة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
كذلك يُلزِم الاتفاق الدول بتقديم خطط وطنية لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، وتحديثها كل خمس سنوات، كما يدعو إلى تعزيز التمويل للدول النامية لمساعدتها على التكيّف مع آثار التغير المناخي.
لكن، على مدار كل هذه السنوات وهذا الكم من مؤتمرات المناخ ونحن على مشارف مؤتمر الأطراف للمناخ COP30 في البرازيل ورغم شمولية اتفاق باريس إلا أن الاتفاق لا يُلزم الجيوش بتقارير أو تخفيضات محددة لانبعاثاتها.
الجيوش والمناخ
في خضم التحديات البيئية المتصاعدة التي يواجهها العالم، تبرز الحروب والصراعات العسكرية كأحد أكثر المصادر المنسية لانبعاثات الكربون، رغم تأثيرها العميق والمدمر على المناخ.
فبينما تنصب الجهود الدولية على تقليل الانبعاثات في القطاعات المدنية كالصناعة والنقل والطاقة، تظل الجيوش والمؤسسات العسكرية خارج كثير من آليات المحاسبة البيئية، رغم مسؤوليتها عن نسب ضخمة من انبعاثات الغازات الدفيئة.
تستهلك الجيوش حول العالم كميات هائلة من الوقود الأحفوري في تحريك الطائرات، والسفن، والدبابات، والمركبات القتالية، إلى جانب تشغيل القواعد العسكرية والبنى التحتية الضخمة.
الولايات المتحدة تعد، على سبيل المثال، من أكبر المساهمين في الانبعاثات العسكرية، إذ تفوق انبعاثات جيشها السنوية تلك الصادرة عن دول كاملة مثل السويد أو البرتغال.
الانبعاثات العسكرية
في عام 2023، أهدى مرصد الصراع والبيئة البريطاني و7 منظمات دولية هدية للعالم في ظني أنها لم تتكرر حين أفصح للمرة الأولى عن حجم الانبعاثات العسكرية في العالم، وقال إن الجيوش حول العالم مسؤولة عن 5.5 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة، بخلاف الانبعاثات الناجمة عن الحروب والصراعات، وهو رقم أكبر بكثير من الـ5.5 في المئة المذكورة سلفاً، فالجيوش تعد من أكبر مستهلكي الوقود الأحفوري ولديها سلاسل إمداد كبيرة ومعقدة، ما يجعلها مصدراً رئيسياً للانبعاثات.
كذلك ترتبط الانبعاثات العسكرية بالميزانيات العسكرية للبلدان، والتي سجلت أكثر من تريليوني دولار سنوياً في 2023، وبعد إعلان الناتو زيادة ميزانيته كذلك الولايات المتحدة الأميركية فإن هذا الرقم قد يكون تضاعف في 2025 ومرشح للزيادة في السنوات الخمس المقبلة.
وإذا نظرنا للتكتلات الاقتصادية الكبرى حول العالم فسنجد أن دول مجموعة العشرين وحدها تستحوذ على 87 في المئة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي، وهذا يضعها على قائمة المستهدفين للإنفاق على قضايا المناخ والحد من الاحترار لكنها ووفق جميع الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمناخ محصنة أو بالأدق مستثناة من التزامات اتفاق باريس، وهنا أعني بند التسليح والإنفاق العسكري.
من غزو العراق إلى حرب إسرائيل وإيران
لم تساعدني الأرقام والإحصائيات التي لم تكن موجودة أثناء الحرب العالمية، لا الأولى ولا الثانية، في رصد حجم الانبعاثات الكربونية لها نظراً لظروف تلك الفترة الزمنية من تاريخ العالم، لكن أرقام الحروب الحديثة منذ غزو العراق للكويت سهل رصدها وحساب الانبعاثات الكربونية لها ولو بشكل تقريبي، حيث تشير التقديرات إلى أنها خلّفت نحو 250 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
الحروب الأميركية
أما الحرب الأميركية في أفغانستان والعراق وباكستان وسوريا فقد خلّفت نحو 440 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون بين عامي 2001 و2018، فيما خلفت الحرب الروسية الأوكرانية أكثر من 100 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في أول 15 شهراً لها، وقد يصعد هذا الرقم لأكثر من نصف تريليون طن من الكربون في فبراير المقبل.
أما حرب إسرائيل في غزة فتشير التقديرات إلى أنها خلفت انبعاثات تعادل الانبعاثات السنوية لـ102 دولة منفردة، بحسب باحثين أميركيين وأوروبيين، فيما لم تعلن أي جهة حتى اللحظة عن حجم الانبعاثات الناتجة عن حرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران ولكن بحسابات بسيطة لو نظرنا إلى نموذجين فقط من الصواريخ التي استخدمت في تلك الحرب سنجد أن إيران أطلقت نحو 550–950 صاروخاً باليستياً وألف درون، بينما قامت إسرائيل بأكثر من ألف طلعة جوية، وحسابياً نحو 40 ألف طن مكافئ من ثاني أكسيد الكربون خلفتها الضربات الصاروخية فقط، بخلاف انبعاثات الدرون والطائرات والقنابل التي أنهت العملية في طهران.
ترامب والمناخ.. عرض عسكري مكلف
وبعيداً عن تعقيدات الأرقام الخاصة بالانبعاثات العسكرية التي قد لا يهتم بها الكثير منا رغم أنها سبب أصيل في طقس الجحيم الذي نعيشه، يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب لارتداء ثوب السلام من أجل "نوبل للسلام" وبالمقابل أعلن رسمياً مرتين في ولايتين لأميركا انسحابه من اتفاق باريس الملزم للمناخ، ليس هذا فحسب فالجميع يعلم لأنه ليس سراً أن أميركا هي صاحبة النصيب الأكبر من المخلفات الكربونية للحروب في العالم خلال الخمسين عاماً الماضية، لكن قيادة ترامب غير معنية بتمويل قضايا المناخ، فهل اكتفى ترامب بموقف الانسحاب من اتفاق باريس؟
الإجابة لا.. ففي 14 يونيو 2025 حضر ترامب عرضاً عسكرياً في الذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأميركي بمشاركة أكثر من 150 مركبة و50 طائرة، بتكلفة بلغت 45 مليون دولار، خلَّف هذا العرض انبعاثات كربونية بنحو مليوني كيلوغرام من الكربون، ما يعادل تشغيل 300 منزل سنوياً.
في ظني، إذا استمر العالم بمعادلة «أمن مكلف بيئياً = سلام بيئي»، فلن يتحقق أي منهما بشكل مستدام، يجب أن نحارب لتدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة، لكن ليس على حساب تدمير مستقبل الأجيال المقبلة.