المدينة 5.0.. المختبر الحضري الذي سيشكل مستقبلنا

المدينة 5.0.. المختبر الحضري الذي سيشكل مستقبلنا
د. يسار جرار clock

د. يسار جرار

أستاذ كلية هولت للأعمال، الولايات المتحدة والمدير التنفيذي لـ Gov Campus

تخيّل مدينة تنبض بالحياة الرقمية، تتخذ قرارات في جزء من الثانية، وتصلح الأعطال قبل وقوعها، وتُدير المرور بذكاء يشبه الذكاء البيولوجي للجسم البشري. هذا ليس مشهداً من فيلم خيال علمي، بل واقعاً يتشكل أمامنا اليوم في مدن تتسابق نحو ما يمكن أن نسميه “المدينة 5.0”، جيل جديد من المدن، ليس فقط مدعّماً بالتقنية، بل مبنياً حولها.

في هذا العصر، لم يعد كافياً أن تكون المدينة “ذكية” بمعناها التقليدي: مجرد أجهزة استشعار وإشارات مرور ذكية. المدينة 5.0 تعني أن تكون المدينة بيئة قابلة للتعلّم، متكيفة مع البيانات، سريعة في اتخاذ القرار، وتوفر لسكانها وقتاً، وراحة، وجودة حياة غير مسبوقة.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

الجيل القديم من "المدن الذكية" كان مبنياً على رقمنة الخدمات وربط الأنظمة، أما المدينة 5.0، فهي كائن حي رقمي، يتنفس بيانات ويعمل تلقائياً، في شنجن، تقوم روبوتات الأمن بدوريات يومية، وفي سان فرانسيسكو وفينيكس، تنقل سيارات الأجرة ذاتية القيادة الآلاف كل يوم، أما في رواندا، فتطير طائرات درون بسرعة البرق لنقل الدم والأدوية. حتى إشارات المرور في سنغافورة لم تعد صماء؛ بل تعدّل نفسها لحظياً حسب الزحام، وتفكر كما يفكر الجسد حين يستجيب للألم أو الخطر.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

في قلب هذا التحول يكمن مفهوم “مختبر المدينة الذكية” – مساحة حضرية مرنة ومفتوحة، تُجرّب فيها الابتكارات على نطاق حي، وتُختبر الحلول الرقمية قبل أن تُعمم على المدينة بأكملها، مدينة برلين تقدم نموذجاً رائداً في هذا المجال عبر “CityLab Berlin”، وهو ليس مجرد مركز أبحاث بل بيئة حضرية حية، حيث تُجرى التجارب التقنية وسط الشوارع والحدائق والمرافق العامة.

في هذا المختبر، تُختبر تقنيات مثل صناديق النفايات الذكية التي ترسل إشارات عند امتلائها، لتُقلل عدد الرحلات غير الضرورية لشاحنات القمامة. أو نظم النقل التشاركي التي تدمج حركة الحافلات والمترو والدراجات في تطبيق واحد يتفاعل مع البيانات الحية.

لكن برلين ليست وحدها. سنغافورة، التي تُصنف باستمرار ضمن أفضل 5 مدن ذكية عالمياً، سبقت الجميع في تطوير “التوأم الرقمي” للمدينة: نسخة رقمية كاملة من سنغافورة الحقيقية تُحاكي الواقع لحظياً، من خلالها، يمكن للمخططين اختبار تأثير بناء برج جديد على حركة الرياح، أو التنبؤ بأثر السيول على أحياء معينة، النتيجة: قرارات تخطيط عمراني أكثر دقة، وانخفاض الازدحام بنسبة تصل إلى 20% في المناطق التي تعتمد النظام.

وفي سيئول، أطلقت مؤسسة سيئول الرقمية (Seoul Digital Foundation) مشروع “المدينة الرقمية التوأم” الذي يُعيد بناء العاصمة الكورية الجنوبية رقمياً بدقة مذهلة، يتم من خلاله دمج بيانات آنية من 50 دائرة حكومية لرصد حركة المرور، وتدفق الناس، وجودة الهواء، والبنية التحتية، ما يمكّن من استباق المشكلات قبل حدوثها.

من أوروبا، نجد برشلونة مثالاً آخر، المدينة خفّضت استهلاك الطاقة بنسبة 30% من خلال أعمدة إنارة تتفاعل مع حركة الناس، كما اعتمدت أنظمة نفايات ذكية خفّضت التكاليف بنسبة 20%، وأنشأت منصة مفتوحة تسمح للمواطنين باقتراح مشروعات والتصويت عليها رقمياً.

أما دبي، فهي تمضي بخطى ثابتة نحو مدينة ذاتية القيادة بنسبة 25% بحلول عام 2030، في شوارع محددة، تختبر دبي سيارات أجرة ذاتية القيادة، حافلات كهربائية بدون سائق، وروبوتات شرطة تعمل بالذكاء الاصطناعي، كلها اختبرت أولاً في "مختبرات حضرية" قبل أن تُنشر على نطاق واسع.

التحول الرقمي الحضري ليس رفاهية بل ضرورة، تقرير البنك الدولي يشير إلى أن التحول الذكي للمدن يمكن أن يوفر ما يصل إلى 5 تريليونات دولار سنوياً بحلول عام 2026 عبر تحسين كفاءة الطاقة، والنقل، وإدارة الأصول. في أوروبا، أنظمة المرور الذكية أسهمت في خفض الحوادث بنسبة تصل إلى 30%، وفي الصين، باتت الروبوتات تفحص الجسور وخطوط الكهرباء بأمان ودقة تتجاوز قدرة الإنسان.

لكن الأهم من كل ذلك: أن هذه التحولات تُقاس بجودة الحياة، مدن مثل كوبنهاغن وأمستردام، اللتين تتصدران مؤشرات Mercer وEIU لأفضل المدن للعيش، استثمرت في مختبرات حضرية لقياس وتحسين جودة الهواء، وتسهيل التنقل، وتوفير الوقت.

تقرير حديث من Nexus Integra عن أفضل 10 مدن ذكية في العالم يضع في مقدمته مدناً مثل أوسلو، أمستردام، سنغافورة، زيورخ، وسيئول، كل هذه المدن تشترك في شيء واحد: لم تترك التحول الحضري للصدفة، بل أسست مختبرات حضرية رقمية حوّلت المدينة إلى كائن حي، قابل للتعلم والتطور والتكيف مع سكانه.

وهنا تأتي اللحظة العربية، دبي والرياض وأبوظبي وعمّان والدوحة تمتلك البنية الرقمية والطموح والخبرة لتصبح رواداً عالميين في تجربة "المدينة 5.0"، بناء “مختبرات المدن الذكية” ليس فقط حاجة تقنية، بل ضرورة استراتيجية. فهي تتيح تجريب التقنيات الجديدة في بيئة خاضعة للرقابة، وتدريب الكفاءات الوطنية، وجذب استثمارات التقنية، وخلق سياسات حضرية قائمة على بيانات حية.

المعيار الجديد للمدينة الناجحة لم يعد جمال المعمار أو كثرة المسارح فقط، بل قدرتها على اتخاذ قرار ذكي في ثوانٍ. جودة البيانات، وسرعة الاستجابة، ومستوى التشغيل الذاتي للخدمات، كلها باتت تقيس "قيمة" المدينة مثلما كانت تقيسها نسبة البطالة أو الدخل الفردي في السابق.

في عالم يتغير بهذه السرعة، لم يعد السؤال: "هل نستطيع تحمل تكلفة إنشاء مختبر ذكي؟" بل أصبح: "هل نستطيع تحمّل تكلفة عدم إنشائه؟" المدن التي تمتلك هذه المختبرات اليوم هي التي ستكتب خرائط المستقبل، بينما ستبقى الأخرى تُعاني من الأزمات بدلاً من استباقها.

في تلك المختبرات يمكن تدريب جيل جديد من المهندسين والمخططين على استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات لحل تحدياتنا الحضرية. ويمكن لها أن تصبح بوابة لجذب استثمارات ضخمة في قطاع التقنية، وأن تعزز مشاركة المواطنين في تطوير مدنهم، ليصبح كل ساكن جزءاً من الحل، لا مجرد مستخدم.

المدينة 5.0 ليست مجرد حلم رقمي، المدن التي تبني مختبراتها الذكية اليوم، هي التي سترسم حدود الجغرافيا الحضرية غداً، مختبر المدينة لم يعد رفاهية، بل ضرورة وجود في عصر يتغير كل ثانية، وحين يسألنا الجيل القادم: كيف بنينا مدناً قادرة على المنافسة في عالم الذكاء الصناعي؟ سيكون الجواب: بدأنا من المختبر.

تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.