سلسلة حول مستقبل العناقيد الصناعية -2-
تأتي هذه المقالة ضمن سلسلة تستكشف مستقبل العناقيد الصناعية، حيث تناولنا في الجزء الأول كيف تطورت العناقيد عالمياً، من تجمعات جغرافية ثابتة إلى منصات ديناميكية تتماشى مع الأولويات الوطنية في عصر الذكاء الاصطناعي والتحول الأخضر.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
في هذا الجزء، ينتقل التركيز إلى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث الفرصة تحوّلية والطموحات غير مسبوقة.. لقد وضعت حكومات الخليج رؤى وطنية جريئة تهدف إلى الانتقال من اقتصادات قائمة على الموارد إلى اقتصادات تقودها المعرفة والتقنيات المتقدمة.. ومع أن الرؤية واضحة، فإن التحدي الحقيقي يكمن في التنفيذ.
تحقيق هذه الطموحات لا يمكن أن يُبنى على البنية التحتية وحدها أو على الحوافز الاستثمارية التقليدية.. بل يتطلب هندسة صناعية جديدة، مصممة خصيصاً لتواكب نقاط القوة المؤسسية في الخليج، ومرونته التنظيمية، وثقله الجيوسياسي. ومن هنا، أقترح إطاراً جديداً يُعرف بعناقيد التنمية الموجهة. وهو ما أسميه بـMODC (Mission-Oriented Development Clusters) أي العناقيد الموجهة نحو مهام محددة ترتبط مباشرة بالأولويات الوطنية، وتُبنى بغرض تحقيق أثر اقتصادي واضح خلال فترة زمنية مضبوطة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
اليوم، الخليج ليس مجرد منطقة غنية بالموارد، بل ساحة للطموحات المدروسة. في الإمارات، تهدف مبادرة «عملية 300 مليار» وأجندة «نحن الإمارات 2031» إلى تحويل الدولة إلى مركز عالمي للتصنيع المتقدم، والتقنيات النظيفة، والصادرات القائمة على الابتكار.
وفي السعودية، تُعيد «رؤية 2030» و«الاستراتيجية الوطنية للصناعة» تشكيل القاعدة الاقتصادية من خلال التوطين عالي التقنية، وتعزيز مرونة سلاسل الإمداد، وتمكين القطاع الخاص، أما في قطر وعُمان والبحرين والكويت فتتقدم استراتيجيات مكمّلة في مجالات مثل الهيدروجين الأخضر، والتكنولوجيا المالية، واللوجستيات، وتحديث البنية التحتية.
لكن هذه ليست شعارات.. بل مهام تنفيذية حقيقية. ومع ذلك، فإن تحويل هذه الرؤى إلى نتائج ملموسة يتطلب ما هو أبعد من النماذج التقليدية للعناقيد الصناعية.. لا نحتاج إلى نموذج مستورد، بل إلى نظام تصميم وتنفيذ مصنوع خصيصًا لواقع الخليج.
العناقيد الصناعية التقليدية -المبنية على التقارب الجغرافي، والميزة النسبية، والنمو العضوي- لم تعد تفي بالغرض في عصر تكنولوجي سريع التغير. الخليج يحتاج إلى عناقيد موجهة نحو المهام، تُصمم خصيصاً لتحقيق أهداف وطنية محددة بسرعة ودقة.
على عكس النماذج التقليدية، فإن عناقيد التنمية الموجهة ليست أدوات استيعاب سلبي للاستثمار، بل محركات نشطة للتنفيذ. تُدخل هذه العناقيد الأولويات الوطنية -مثل أنظمة صناعية محايدة الكربون، وبنية تحتية سيادية للذكاء الاصطناعي، وتنافسية التصنيع، وأمن المياه والغذاء- في صلب هياكل الحوكمة، ورأس المال، والتنظيم، وتنمية المواهب.
هذا النموذج ليس تكراراً لتجارب الآخرين، بل ابتكاراً استراتيجياً يستند إلى خصوصيات الخليج وقدراته الفريدة.
ما الذي يجعل الخليج مؤهلًا لقيادة هذا التحول؟
مجلس التعاون يتمتع بميزة فريدة: القدرة على مواءمة الاستراتيجية الوطنية مع رأس المال السيادي، والتنسيق الحكومي، والمرونة التشريعية.. تملك الإمارات والسعودية حجماً مؤسسياً وزخماً إصلاحياً كافياً لقيادة هذا النموذج، من خلال تسريع التكامل بين القطاعين العام والخاص، وتسخير التمويل التحفيزي، وإحداث قفزات تنظيمية.
ولتحقيق هذا التحول، لا بد من هندسة التنفيذ عبر ما أسميه بنية العناقيد المتراكبة، وهي بنية تشغيلية تتكوّن من خمسة عناصر مترابطة:
• مجالس المهام: كيانات بين وزارية تُحدد الأولويات الوطنية، وتقيس الأداء، وتحل الاختناقات المؤسسية.
• تكديس رأس المال: أدوات تمويل هجينة تربط بين رؤوس الأموال السيادية، والاستثمار الجريء، والمشتريات المبنية على النتائج.
• وحدات تسريع تنظيمية: فرق تنفيذية مدمجة تُسرّع عمليات الموافقة، والترخيص، والمعايير.
• مسارات المهارات: برامج تدريب قطاعية مشتركة مع الصناعة، تركز على مجالات مثل الهيدروجين، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والتصنيع الدائري.
• بنية تحتية رقمية: لوحات تحكم لحظية لرصد الإنتاجية، والانبعاثات، والابتكار، ومؤشرات القوى العاملة، لدعم الحوكمة التكيفية.
هذه ليست أفكار نظرية. بل معالم بدأت تتجسد في مبادرات واعدة في الخليج.
من النماذج البارزة.. عنقود SAVI في أبوظبي
هذا المشروع المخصص للصناعات الذكية والمركبات الذاتية لا يقدّم مجرد أراضٍ وحوافز، بل يعكس تحولًا فعلياً نحو التكامل التنظيمي، وربط التصنيع بالسياسات الوطنية.. يحتوي SAVI على العديد من عناصر نموذج MODC: جهات تنظيمية مدمجة، وتمويل تحفيزي، ومسارات مهارات، ولوحات أداء لحظية.. لا يزال في بداياته، لكنه يؤسّس لنقلة نوعية يمكن أن تجعل منه المحرك التنفيذي الحقيقي لمبادرة «عملية 300 مليار».
نماذج أخرى تشمل مدينة نيوم الصناعية في السعودية، وهيئة المناطق الحرة في قطر، ومنطقة الدقم الاقتصادية في عُمان، وكلها تتحرك نحو عناقيد سيادية موجهة نحو تقنيات المستقبل.
الخليج لم يعد يتساءل «هل نبني أنظمة صناعية؟»، بل «كيف نضمن أن تكون هذه الأنظمة قابلة للتنفيذ، وموجهة نحو نتائج؟».
عناقيد التنمية الموجهة تقدم تحولاً مفاهيمياً:
من التركيز على البنية إلى التركيز على الأثر،
من المناطق المنعزلة إلى الأنظمة المتكاملة،
ومن الجذب السلبي إلى التنفيذ النشط.
لكن التحدي الحقيقي ليس تقنياً، بل مؤسسياً.. فالنجاح يتوقف على قدرة الحكومات على تنسيق الحوكمة، ورأس المال، والتنظيم، وتنمية المواهب -بسرعة، وعلى نطاق واسع- حول مهام وطنية واضحة.
الخليج يقف اليوم على مفترق طرق تاريخي.
ومع النموذج الصحيح للتنفيذ، يمكن للمنطقة أن تعيد تعريف شكل السياسة الصناعية في القرن الحادي والعشرين، لا عبر تقليد النماذج العالمية، بل عبر صياغة نموذجها الخاص.
الوسائل متوفرة.
والإرادة حاضرة.
واللحظة هي الآن.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.