ما وراء النهضة التكنولوجية.. المصالح الإنسانية وسلامة الكوكب قبل العوائد المالية

ما وراء النهضة التكنولوجية.. المصالح الإنسانية وسلامة الكوكب قبل العوائد المالية
الدكتور عزام بن محمد الرياشي clock

الدكتور عزام بن محمد الرياشي

الأستاذ المساعد في كلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة

عندما يفكر الناس في "المدن الذكية" فإنهم كثيراً ما يتخيلون سيارات ذاتية القيادة تسير على طرق يتحكم فيها الذكاء الاصطناعي، وأجهزة استشعار إنترنت الأشياء التي تعمل على تحسين استهلاك الطاقة، وأنظمة الحوكمة القائمة على تقنيات سلسلة الكتل؛ ولكن ماذا لو كان تركيزنا على التكنولوجيا يمنعنا من رؤية ما يجعل المدينة "ذكية"؟ ومن خلال نموذج متعدد التخصصات يقيّم أداء 32 مؤشراً في 20 مدينة عالمية، يوضح البحث أن ذكاء المدينة يتجاوز ميزاتها التكنولوجية، كما يظهر أنه يمكن إنشاء هذه المدن الذكية عندما تحقق المجتمعات توازناً بين العدالة الاجتماعية، والإشراف البيئي، والمرونة الاقتصادية، فضلاً عن وضع الإنسان والكوكب أولوية أساسية عوضاً عن التركيز على تحقيق مكاسب مالية.

التكنولوجيا لا تُعالج الفقر

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

غالباً ما يتم تصوير المدن الذكية على أنها واحات تقنية مبتكرة تعزز التنمية والتطور، ولكن هذا المنظور المحدود يمكن أن يحول التنمية الحضرية إلى عملية قائمة على الكفاءة فقط، وعلى الرغم من أن التطورات الثورية لتقنيات الذكاء الاصطناعي وأجهزة استشعار إنترنت الأشياء كانت نتيجة لذلك، فإن هذه التقنيات لا تعتبر الهدف النهائي المرجو تحقيقه، كما أظهرت دراسة أجرتها جامعة حمد بن خليفة أن مدناً مثل تورونتو، وأوساكا، وسيدني تفوّقت على نظيراتها لندن، وموسكو، ونيويورك لأنهم رجحوا التركيز على الاستدامة البيئية، والتماسك الاجتماعي، والحوكمة بدلاً من مجرد تطوير البنية التحتية الرقمية.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

وتُعد الدوحة قوة اقتصادية إقليمية وعالمية ذات ناتج محلي إجمالي للفرد يقدر بـ107%، ولكن هذه الإحصائية لا تعكس ظروف المعيشة لجميع سكانها والآثار البيئية للنمو السريع، وفي الوقت نفسه حلت مدينة نيويورك في مرتبة متدنية وفقاً لهذه الدراسة رغم قوتها الاقتصادية الكبيرة، بسبب الفصل الاجتماعي الكبير وانعدام المساواة في ما يتعلق بالوصول للخدمات الأساسية.

وجاءت مدينة تورونتو في المركز الأول لأنها خصصت 18% من أراضيها للمساحات الخضراء، ووفرت إمكانية الوصول العادل إلى الرعاية الصحية والحوكمة المجتمعية، كما كشفت الدراسة عن وجود ترابط بنسبة 97% بين كفاءة الطاقة والنمو الاقتصادي، وأن العدالة الاجتماعية، التي يتم قياسها من خلال التعليم وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية ومستويات الفقر، تتماشى بنسبة 84% مع النجاح الاقتصادي، مبرزة العلاقة الإيجابية بين الاستدامة البيئية والصحة الاجتماعية، حيث تسهم السياسات المناخية الفعالة في الحصول على نتائج أفضل، وتقلل من مستوى الفقر، وتزيد المشاركة العامة.

كما أثبتت الدراسة أن الاستدامة البيئية لا يجب أن تتعارض مع التنمية الاقتصادية، وأن التقنيات التكنولوجية تعمل بشكل أفضل عندما تصبح جزءاً من نظام يضمن رفاهية الناس، وأوضحت النتائج الرئيسية أن الاستثمار في الطاقة المستدامة، والإسكان منخفض التكلفة، وممارسات الحوكمة الشاملة يعود بالنفع على المجتمع من الناحيتين الأخلاقية والاقتصادية، وأثبتت مدينة أوساكا أن التمسك بالاستدامة وتحقيق التنمية ليسا متعارضين، من خلال انتقالها إلى استخدام مصادر الطاقة المتجددة، ولقد خلقت هذه المبادرة 15,000 فرصة عمل وقللت معدلات الانبعاثات في الوقت نفسه.

الدروس الميدانية

تنبع إنجازات مدينة تورونتو الملحوظة من القرارات التشريعية السابقة التي دعمت كلاً من الإشراف البيئي والعدالة الاجتماعية، فعلى سبيل المثال حققت اللائحة الداخلية للأسطح الخضراء في المدينة هدفين رئيسيين تمثلا في خفض الجزر الحرارية الحضرية وتأسيس مناطق مجتمعية، من خلال المطالبة بتغطية أسطح المباني الجديدة بالنباتات بنسبة 20-60%، كما دمجت مبادرة "الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050" في مدينة أوساكا بين المشاركة العامة من خلال الميزانية المشتركة لضمان توافق القرارات السياسية مع احتياجات المجتمع.

وتتألق دبي بمزارع الطاقة الشمسية وأنظمة المرور التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، ولكنها لا تأبه كثيراً بمعالجة القضايا البنيوية، مثل ندرة المياه وحقوق العمال، وحلت الواحة التجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة بالمرتبة 14 في التقرير، لأنها تركز بشكل كبير على العناصر الفردية عوضاً عن النهج المتكامل للمدن الناجحة في التخطيط الشامل.

وتبرز الدوحة كنموذج فريد من نوعه للمدن الذكية، نظراً لتبنيها رؤية طويلة الأمد ترنو لتحقيق التنمية والتعليم، ولطالما اقترن التطور الحضري الذي تشهده العاصمة القطرية ببناء القدرات المحلية، الأمر الذي أتاح للسكان فرصاً سانحة، وأسهم في زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 69,000 دولار أميركي، ويكمن تميزها في دمج التطوير التكنولوجي والاستثمار في مجال التعليم وبناء القدرات المحلية، وتُعد مؤسسة قطر وتركيزها على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، خير مثال على تمكين الأجيال القادمة من خلال التعليم أولاً والتكنولوجيا ثانياً، ولقد جاءت الدوحة في المرتبة السابعة في هذه الدراسة، ولا تزال ملتزمة بتعزيز الابتكار من خلال التركيز على بناء بنية تحتية مستدامة وصديقة للبيئة.

إذاً، هل يعني ما سبق أن التكنولوجيا غير مهمة لتعزيز تقدم المدن الذكية؟ بالطبع لا، فقد قللت مدينة سيدني من إهدار المياه بنسبة 30% عن طريق استخدام أجهزة استشعار إنترنت الأشياء، كما خفّضت شبكة تورونتو الذكية من معدل الطلب على الطاقة بنسبة 18%، وأجرت بعض التعديلات على مشروع مختبرات "سايدووك لابز" في تورنتو، بعد تلقيه العديد من الانتقادات في بادئ الأمر بسبب تفضيله جمع البيانات على احترام الخصوصية، ويهدف المشروع للتركيز على توفير إسكان منخفض التكلفة وإنشاءات خالية من الكربون، ولقد باتت هذه الإنجازات ممكنة لأن الأهداف التي تتمحور حول الإنسان هي التي توجه التطور التكنولوجي.

إعادة كتابة دليل المدن الذكية

سلط بحث جامعة حمد بن خليفة الضوء على 3 تغييرات أساسية يجب التقيد بها لإنشاء مدن ذكية بحق، كما يحتاج صانعو السياسات والمطورون إلى إعادة التفكير في ما يجعل المدن "ذكية"؛ وسيتطلب ذلك دمج المؤشرات متعددة الأبعاد لقياس معايير العدالة، والاستدامة، والرفاهية بشكل أفضل، إضافة إلى زيادة معدل الناتج المحلي الإجمالي، واعتماد التكنولوجيا في هذه العملية، فضلاً عن التركيز على إضفاء طابع ديمقراطي في الابتكار، والمشاركة العامة، وعمليات التخطيط، وقد أدى "نموذج الإبداع المشترك" في مدينة هلسنكي، وهو نموذج يستخدم فيه المواطنون تقنية سلسلة الكتل للتصويت على المشاريع الحضرية، إلى زيادة الثقة المدنية بنسبة 40%.

كما يجب أن تُعطي المدن الذكية الأولوية للاستثمار في بنيتها التحتية غير المرئية، للدلالة على أن أساس المرونة هو رأس المال الاجتماعي الذي يشمل الأماكن الثقافية، ومرافق الرعاية الصحية، والمؤسسات التعليمية، وتوضح المدن، مثل كوبنهاغن، التي تخصص ربع ميزانيتها للبرامج الاجتماعية، كيف أن هذه النفقات تعزز الابتكار والإنتاجية.

وبوسع خوارزمية التعلم الآلي تحسين انسيابية حركة المرور، ولكن يجب أن يعطي المجتمع الأولوية لرفاهية جميع أفراده لضمان مشاركة المنافع بشكل متكافئ، إذ لا يمكن للمدن أن تصبح أكثر ذكاءً ما لم يتم منح مواطنيها القدرة على تغيير هذا الذكاء وتشكيله؛ فالاختبار الحقيقي للمدينة الذكية هو في النهاية عدد الحيوات التي تحسّنها، وليس حجم جيجابايتات البيانات التي تنتجها، لأن العالم يحتاج إلى مدن تجمع بين التطور التكنولوجي والإبداع الأخلاقي بحيث يعود الربح بالنفع على الناس ويُقيّم التقدم وفقاً لوجهات نظر البشر لا المكاسب المالية الموسمية، كما أن معدل ذكاء المدينة لا يتم تقييمه بالسيليكون، بل بناءً على مدة الانتظار في المستشفيات، وقدرة المواطنين على تحمل تكاليف أجرة الحافلات، وعدد الأشجار المزروعة التي يلهو حولها الأطفال.

 تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.

تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.