صرخات المودعين تدوي في آذان الحكومة اللبنانية.. ورفع السرية شرط لاستعادة الأموال

لبنان وتحديات الإصلاح المالي
صرخات المودعين تدوي في آذان الحكومة اللبنانية.. ورفع السرية شرط لاستعادة الأموال
لبنان وتحديات الإصلاح المالي

عندما أعلن رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام من السراي الكبير قبل يومين أن رفع السرية المصرفية هو ركيزة أساسية للإصلاح المالي في لبنان، بدا كلامه موجهاً لطمأنة المودعين والدائنين والداعمين الدوليين، فالشفافية ضرورية… ويجب تفكيك السرية المصرفية.

جاء هذا في وقت لا تزال فيه آلية تثبيت الحاكم الجديد لمصرف لبنان عالقة في التجاذب السياسي والطائفي وسط توقعات بحسم التسمية يوم غد 27 مارس، فمن دون حاكمية يبقى أداء المؤسسات الرقابية وعلى رأسها هيئة التحقيق الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف معطلاً.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

وسيعمق سريان المراكب بما لا تشتهي السفن التحديات ويؤخر مسارات التحقيق في التحويلات المالية الخارجة من النظام المصرفي اللبناني خلال سنوات الانهيار والتي تقدر بين 6 و8 مليارات دولار يتحمل أعباءها المواطن اللبناني مقيماً كان أو مغترباً.

 

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

 

صرخات المودعين تدوي في آذان الحكومة اللبنانية.. ورفع السرية شرط لاستعادة الأموال

 

إصلاح على الورق؟

قال سامي نادر، مدير معهد المشرق للدراسات في مقابلة مع CNN الاقتصادية، "إن رفع السرية المصرفية ضرورة لمعرفة الحقائق في بلد يعم فيه الفساد والاستنسابية".

واعتبر نادر إن صندوق النقد الدولي سيضع رفع السرية المصرفية شرطاً من شروط منح القرض إلى لبنان، معتبراً أن هذا النموذج هو ممارسة عالمية طبقتها بلدان كثيرة مثل بريطانيا وسويسرا.

وتعود السرية المصرفية في لبنان إلى عام 1956 حين أسهمت في بناء سمعة بيروت كمركز مصرفي إقليمي آمن وجاذب لرؤوس الأموال، لكنها في المقابل وفّرت الغطاء لسنوات من التهرب الضريبي، والإثراء غير المشروع، وحماية الطبقة السياسية من المحاسبة.

كما انتقدت كل من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومجموعة العمل المالي -(FATF) التي أدرجت لبنان أكتوبر الماضي على "القائمة الرمادية" للدول الخاضعة للتدقيق الخاص- النظام المالي اللبناني على خلفية عدم التزامه بالمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال.

وبدورها، شددت كل من الأمم المتحدة ومنظمة الشفافية الدولية على أن قوانين السرية المصرفية تعرقل استعادة الأموال المنهوبة وتحمي الفاسدين.

ثغرات وعثرات

الاتجاه واضح بتلاشي هذا النظام خاصة بعد الضغوط الكثيفة من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) التي دفعت باتجاه تعديل قانون السرية المصرفية في 2022، وتوسيع تطبيقه في 2023 حيث بات القانون يسمح للجهات القضائية ولجان التدقيق الجنائي بالحصول على البيانات المصرفية في حالات الفساد، وغسل الأموال، والتهرب الضريبي لكن خبراء القانون والاقتصاد اعتبروا التعديل شكلياً.

وأفاد جوليان كورسون، المدير التنفيذي لجمعيّة الشفافيّة الدولية في لبنان في مقابلة مع CNN الاقتصادية بأن "نصّ الاتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي على ضرورة إصدار قانون جديد للسرية المصرفية يتماشى مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد وإزالة العقبات التي تعوق إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإشرافه بشكل فعّال، وكذلك إدارة الضرائب، وكشف الجرائم المالية، واسترداد الأصول".

ورغم أن الإصلاحات الأخيرة مثل تعديل قانون السرية المصرفية أو تحديث بعض الأنظمة الضريبية تبدو من حيث الشكل خطوات في الاتجاه الصحيح، فإن كثيراً منها أُفرغ من مضمونه بسبب الثغرات القانونية، والغموض في صياغة النصوص، ما يسمح بتفسيرات متعددة، فضلًا عن غياب آليات التنفيذ الفعّالة.. وهذه ليست ظاهرة جديدة في لبنان، فكثيراً ما تُسن القوانين لتلبية متطلبات الجهات المانحة أو لإظهار تقدم شكلي أمام المجتمع الدولي، لكنها تبقى غير فعالة في الواقع العملي.

واستشهد كورسون بتعديل 2022 لقانون السرية المصرفية، الذي سمح لبعض الجهات -مثل هيئة التحقيق الخاصة، ولجنة الرقابة على المصارف التابعة لمصرف لبنان، والسلطات القضائية- بالحصول على المعلومات المصرفية.

إلا أن آلية التنفيذ ما زالت غير واضحة، فعلى الرغم من أن القانون المعدل وسّع نطاق المؤسسات المخوّلة بالوصول إلى هذه المعلومات، فإن الواقع يشير إلى أن السلطات القضائية لا تزال بحاجة إلى المرور عبر هيئة التحقيق الخاصة للحصول على تلك المعلومات، وذلك رغم ما ينص عليه القانون.. كما يبقى من غير الواضح ما إذا كان هذا القانون يُطبّق بأثر رجعي.

وشرح أن الحال بالمثل في ما يتعلق بالإصلاحات الضريبية "لقد شهدنا سنّ قوانين تزيد، من الناحية النظرية، من الرقابة ومتطلبات الإبلاغ، لكنها لا تستند إلى تحديث إداري فعّال أو إلى آليات مساءلة واضحة.. وبدون قضاء مستقل ومؤسسات عامة فعالة، تبقى هذه القوانين مجرد نصوص على الورق".

وأشار تقرير سابق للمساعدات فنية الصادر عن صندوق النقد الدولي حول السياسة الضريبية في لبنان (2023) إلى أن رفع السرية المصرفية ضروري لتطبيق القانون الضريبي والحد من التهرب الضريبي.

ورغم أن التقرير لم يذكر رقماً دقيقاً لزيادة الإيرادات الناتجة عن رفع السرية فقط، فقد قدّر الصندوق أن إلغاء الإعفاءات والامتيازات الضريبية الخاصة يمكن أن يؤدي إلى زيادة في الإيرادات تعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي.

وقال جوليان: وفي ما يخص تنفيذ القوانين واسترداد الأموال المسروقة أو المُدارة بشكل سيئ -مثل مبلغ الـ8 مليارات دولار المُقدّر- فإن الخطوات المتخذة حتى الآن غير كافية، فلا توجد استراتيجية شاملة لاسترداد الأصول يمكن أن تؤدي إلى النتائج المرجوة.

الذهب  ضرورة أم مجازفة؟

وسط انسداد الأفق المالي، تكررت الدعوات -من نواب وخبراء- إلى استخدام احتياطي الذهب كضمان للحصول على قروض؛ فلبنان يحتفظ بما يقارب 286 طناً من الذهب، تُقدّر قيمتها السوقية اليوم بأكثر من 25 مليار دولار.

وبينما يرفض القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان، وسيم منصوري، أي استخدام لهذه الاحتياطات دون غطاء قانوني، يواصل البعض طرح هذا الخيار كأداة "للخروج من الأزمة".

لكن بحسب خبراء الشفافية، فإن استخدام الذهب قبل استعادة الأموال المُهرّبة هو قلبٌ لأولويات الحلول، واللجوء إلى بيع الأصول أو رهنها قبل إصلاح البنية الرقابية والقضائية هو بمثابة إنقاذ المنظومة نفسها التي سبّبت الانهيار، وليس إنقاذ الدولة.

ثمن الجمود

بين أكتوبر 2019 ومنتصف 2020، وخلال ذروة الأزمة المالية، يُقدّر أن ما بين 6 و8 مليارات دولار قد تم تحويلها إلى الخارج من قبل نافذين ومصرفيين، بينما حُرم المودعون العاديون من الوصول إلى أموالهم.

ووفق التقرير الجنائي لـ"ألفاريز ومارسال"، تجاوزت الخسائر المالية 50 مليار دولار، و111 مليون دولار من العمولات المشبوهة البيانات المصرفية اللازمة بسبب قانون السرية.

وتواجه المصارف اللبنانية تحديات ساخنة متمثلة في متطلبات التدقيق المكثف، والتراجع في الثقة، وتكاليف التزام جديدة.

أما كبار المودعين، وخاصة من يملكون حسابات في الخارج، فقد يلجؤون إلى سحب أموالهم بصمت خوفاً من التتبع أو الاستهداف السياسي، ووسط مخاوف حقيقية من هروب جديد لرؤوس الأموال يجمع الخبراء الى أن الإصلاح دون خطة اقتصادية شاملة يزيد من الغموض.

كلام الرئيس سلام يكرر وعوداً سمعها اللبنانيون من رؤساء حكومات سابقين مثل نجيب ميقاتي، وحسان دياب، وسعد الحريري... جميعهم تحدّثوا عن رفع السرية المصرفية في لحظات ضغط، وجميعهم فشلوا في كسر الحلقة المقفلة.

فمن دون تحقيقات حقيقية، وإجراءات قضائية، واستعادة ملموسة للأموال المنهوبة، قد يتحول هذا الإنجاز إلى حبر على ورق .

العالم يراقب والمودعون كذلك.. وما لم تتم محاسبة من هربوا أموالهم… فإن ثقة الناس، مثل ودائعهم، لن تعود قريباً.