تحديات كبيرة تواجه شركة إنتل لصناعة أشباه الموصلات قد تؤدي بها إلى الإفلاس، التحديات تفاقمت مع استقالة الرئيس التنفيذي للشركة الذي لم ينجح بإدارة الأمور على مدار السنوات الثلاث التي قضاها في الشركة، لكنها بدأت قبل ذلك بسنوات لا سيما مع بدايات طفرة الذكاء الاصطناعي التي لم تستطع إنتل مواكبتها، رغم أنها من بدأت صناعة الرقائق الإلكترونية المستخدمة في الحواسب الشخصية.

CNN

الاقتصادية استضافت المدير التنفيذي في شركة بالميرا والخبير في الذكاء الاصطناعي وصناعة الرقائق جمال المحاميد، الذي يقترح على الرئيس التنفيذي الجديد لإنتل عدة خطوات قد تساعد الشركة، لكنه يطرح في الوقت نفسه عدة تحديات ويقارن تأخر إنتل بنجاح إنفيديا وغيرها.. وهذا ما قاله المحاميد لنا:

يعود لشركة إنتل الفضل في استخدام البشر الحاسوب الشخصي، حيث اخترعت ذلك المكون من الرقائق الإلكترونية والذي يعمل كدماغ بشري داخل أي جهاز إلكتروني تستخدمه اليوم، ويسمى وحدة المعالجة المركزية CPU، ذلك المكون يعالج البيانات ويقوم بتمكين أي نظام تستخدمه في حاسبك الشخصي أو مراكز البيانات والهاتف والكاميرا والسيارات… إلخ، حيث قادت الشركة منذ ستينيات القرن الماضي الثورة الصناعية الثالثة عالمياً، وهي من سمح لشركات أخرى مثل مايكروسوفت أو IBM أن تطرح برامجها وأنظمتها التشغيلية باستخدام معالج البيانات المصمم من إنتل.

ساعد إنتل في تحقيق ذلك نموذج تشغيلي معقد ومكون من ثلاث ركائز رئيسية، ويؤدي ذلك النموذج المعقد إلى نتائج باهرة من حيث تقليل التكاليف والريادة في سوق أشباه الموصلات، بشرط أن تعمل تلك الركائز جميعها بنجاح، وإذا فشلت إحداها يكون النموذج كاملاً بخطر، كما نراه اليوم في الشركة، وللتعرف على تلك الركائز تبدأ قصة أي معالج بالبنية الأساسية لأشباه الموصلات Architecture -والتي تميزت فيها إنتل بنموذج X86 وتشاركت مع AMD بسبب طلب من IBM– وتشكل هذه البنية الأساسية قلب المعالج الذي يحول رموز الكمبيوتر المشهورة (Binary) من صفر وواحد إلى نص أو صورة أو غيره من محتويات الملفات في الكمبيوتر، وسمح X86 لإنتل بأن تسيطر على التصميم حتى وقتنا الحالي مع وجود بعض الشركات التي تحاول الابتعاد عنه من خلال استخدامArm Architecture مجاني، وهو نفسه الذي تحاول شركة كوالكم مثلاً أو Arms Holdings الاستحواذ عليه إذا ما طرحت الشركة للبيع.

أما الركيزة الثانية فهي التصميم، وتعتبر الشركة رائدة في وحدة المعالجة المركزية CPU على الأجهزة الشخصية والتي تسيطر على نحو 80% من السوق العالمية فيه، إلا أن الطلب العالمي على الرقائق يقوده -في الوقت الحالي- مراكز البيانات مع انخفاض الطلب على الرقائق الخاصة بالكمبيوترات الشخصية، لذلك تتهم إنتل بأنها فقدت فرصة دخول سوق الذكاء الاصطناعي واعتماد الشركات على رقائقها الخاصة لعدم اقتناعها بتصاميم إنتل.

والركيزة الثالثة والأخيرة هي صناعة سبك الرقائق (أشباه الموصلات)، وعلى الرغم من أن مبيعات مصانع سبك الرقائق في إنتل بلغت 18 مليار دولار خلال آخر 12 شهراً، فإن هامش الربح فيها سلبي بسبب انحصارها للطلب الداخلي على تصاميم إنتل وحدها وشراسة المنافسة مع الطرح المتقدم من الشركة التايوانية TSMC والمتخصصة بالتصنيع فقط، وبعيداً عن التصميم.

حاول بات جيلسنغر حل الإرث الصعب الذي تعاقب عليه 3 مديرين خلال 6 سنوات، وذلك بسبب اعتقاد إنتل منذ عقدين بأنه لا يمكن تقليل حجم الرقائق الإلكترونية، وأن قانون مورز (أحد المؤسسين في شركة إنتل وأول مدير تنفيذي للشركة) قد أصبح من الماضي، وعند بداية موجة الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي جاءت به OpenAI من خلال تطبيق ChatGPT، لم تغير الشركة من معتقدها بأن رقائق كرت الشاشة GPU أفضل لتدريب الذكاء الاصطناعي إلا متأخرة، بالإضافة إلى قرارات أخرى أبعدت الشركة من الدخول في عالم الهواتف الذكية والعملات المشفرة وحتى إضاعة فرصة الاستثمار في OpenAi.

حقق جيلسنغر حلمه ليصبح مديراً تنفيذياً لإنتل في عام 2021، ذلك المنصب الذي لطالما حلم به في فترة إدارته لتصاميم إنتل منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقبل أن يترك إنتل إلى VMware في 2009، وطرح جيلسنغر عند عودته لإنتل خارطة طريق تقضي بإعادة رونق سبك الرقائق في مصانع إنتل ومنافسة الشركة التايوانية TSMC، وشغل جيلسنغر منصب مستشار الإدارة الأميركية في عهد بايدن وتوج سعيه بإقناع الإدارة الأميركية بأهمية صناعة الرقائق في أميركا، وأنتج ذلك إصدار قانون الشرائح الإلكترونية بعام 2022، وساعده في ذلك الإغلاق العالمي بسبب فيروس كورونا، والذي تسبب بخلل سلاسل إمداد أشباه الموصلات في العالم وشلل في قطاعات صناعية كاملة حول العالم من سيارات وإلكترونيات وغيرها، ويمنح قانون الرقائق الإلكترونية عدة شركات منحاً لإعادة صناعة أشباه الموصلات للولايات المتحدة، وحصلت إنتل من هذا القانون على نحو 20 مليار دولار بين منح وقروض لدعم مشاريعها البالغة نحو 90 مليار دولار حتى عام 2030 في أريزونا وأوهايو وغيرها.

كما طرح جيلسنغر بعض تصاميم الرقائق مثل A18 لتغذية طلب مراكز البيانات، وحاول منافسة إنفيديا على كرت الشاشة بطرحه أول كرت شاشة لإنتل (Gaudi)، حيث يتوقع أن يصل حجم سوق مراكز البيانات إلى تريليون دولار خلال 6 سنوات، ويقوده شركات مثل مايكروسوفت وغوغل وأمازون.

لكن اصطدمت خطة جيلسنغر بعقبات كبيرة، حيث لم تجد تصاميمه الجديدة أي أذن مصغية من السوق، وبدأت مراكز البيانات إما بطرح تصاميم جديدة خاصة بها أو الاعتماد على كرت الشاشة من شركة إنفيديا لتغذية طلب الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولم تقف مشكلات جيلسنغر عند ذلك، حيث ابتعدت الشركات عن صناعة تصاميم رقائها في إنتل لأنها اعتبرت إنتل منافسة لها بالتصاميم، وتوجهت إلى الشركة التايوانية التي لا تعمل بالتصميم ولديها خبرة أوسع في سبك الرقائق المتقدمة، ما ترك مصانع إنتل لطلب محصورة لحد كبير على تصاميم إنتل نفسها.

كنتيجة لما سبق نمت أسهم شركات التصميم بشكل كبير تاركة إنتل في قوقعتها، فعلى سبيل المثال: نمت القيمة السوقية لشركة إنفيديا بنسبة 200% خلال 12 شهراً لتصبح أكبر شركة من حيث القيمة السوقية في العالم، بينما AMD، وهي شركة كانت تحاول اللحاق بإنتل لعقود، أما في وقتنا الحالي فانقلب السحر على الساحر، واستطاعت AMD طرح تصاميم GPU جديدة سمحت لها بمنافسة إنفيديا، وحققت نمواً في القيمة السوقية، الذي بلغ ضعف قيمة إنتل، أما فيما يخص التصنيع، فقد كسبت الشركة التايوانية فوائد السبق في تشغيل مصانع سبك الرقائق المتقدمة EUV من الشركة الهولندية ASML، وحققت الشركة التايوانية نمواً كبيراً سمح لها بالسيطرة على أكثر من 90% من صناعة الرقائق الإلكترونية المتقدمة في العالم.

اليوم يغادرنا جيلسنغر بشكل مفاجئ، تاركاً وراءه تساؤلات كبيرة حول مصير إنتل والظاهر أنه غادر بسبب خلاف مع مجلس الإدارة الذي يطالب بفصل صناعة سبك الرقائق عن التصميم، وهو الحل الذي كان جيلسنغر خجول بطرحه، حيث أصر لحد كبير على إبقائهم تحت إدارة واحدة، ما أدى إلى استبعاد الشركات لصناعة تصاميم رقائقها في إنتل، كما يعتقد أن نتائج الربع الرابع ستكون أقل من المتوقع.

ونرى أن أياً كان المدير التنفيذي الجديد لشركة إنتل، سيجد نفسه مطالباً بتغيير جذري لإعادة هيكلة شركة يعمل فيها نحو 124800 موظف، وهو ما يزيد على الكوادر البشرية التي تعمل في كل من إنفيديا والشركة التايوانية TSMC وARM Holdings مجتمعة، كما لا يمكن تجاهل وصول المدير الجديد في حقبة رئاسة ترامب والذي سيجعل بعض السيناريوهات المتعلقة بالصناعات العسكرية المرتبطة بإنتل محدودة الخيارات، وقد يحمل ذلك التغيير خليطاً من السيناريوهات التالية:

١. فصل صناعة سبك أشباه الموصلات عن وحدة تصميم الرقائق، وذلك لتشجيع الشركات لصناعة رقائقها في مصانع إنتل.

٢. التركيز على الرقائق الخاصة بالحواسيب الشخصية، والتي في انتظار إعادة الزخم نحوها عند دخول الذكاء الاصطناعي التوليدي عليها.

٣. بيع الأصول غير الأساسية مثل Altera وMobileye والذي سيوفر النقد اللازم لتمويل خطة نمو جديدة، خاصة إذا شملت حملة بيع الأصول بعض مصانع إنتل القديمة.

٤. السيناريو الأخير والمحير، هل تتخلى إنتل عن صناعة سبك الرقائق بشكل كامل وتبقى على التصميم كما فعلت AMD عندما فصلت المصانع بشركة Global Foundries في عام 2009، لأن هامش ربح إنتل في سبك الرقائق سلبي، لكنه سيناريو صعب التحقيق، لأن تلك المصانع تلبي متطلبات أمنية وعسكرية للحكومة الأميركية، كما أن المنح الحكومية من قانون الرقائق مرتبطة بإبقاء المصانع تحت إدارة إنتل، أم أنها تضطر لبيع وحدة التصميم والبنية الأساسية لشركات مهتمة به مثل كوالكم التي سحبت رغبتها آنفاً بسبب تعقيدات الصفقة.

أخيراً، أترككم بسؤال وإجابة، أما الإجابة، فهي تتعلق بتماسك قيمة سهم إنتل عند هذه المستويات بسبب امتلاك الشركة أصولاً تبلغ قيمتها 190 مليار دولار، أي ضعف قيمتها السوقية عند كتابة هذا المقال، فأي عملية استحواذ أو بيع أصول ستولد أرباحاً لحملة الأسهم.

والسؤال هو، لماذا لم نرَ إنفيديا أو إيلون ماسك ضمن سباق الشركات التي تحاول الاستحواذ على إنتل؟ على الرغم من وفرة النقد لديهم والفائدة الكبيرة التي من الممكن أن تضيفها إنتل على سلاسل قيم منتجاتهم التي يطرحونها في السوق وتوفير هامش الربح الذي تفرضه الشركة التايوانية على صناعتها والبالغ %58 في الربع الثالث من عام 2024.