مع تخبطات عالم العملات المشفرة في الآونة الأخيرة، برزت تساؤلات عدة حول مستقبل الـ«ويب 3.0» والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، حيث تلعب العملات المشفرة دوراً حيوياً في هذين العالمين.
فقد شهد عالم العملات المشفرة اضطرابات غير مسبوقة خلال العام الماضي، ابتداء من الانهيار المفاجئ لعملة «تيرا لونا»، تبعه انهيار صندوق التحوط بالعملات المشفرة «ثري أروز كابيتال»، وكان مسك الختام انهيار بورصة وسوق تبادل العملات المشفرة الشهيرة «إف تي اكس»، واليوم نشهد تعرض أكبر بورصتين لتبادل العملات المشفرة، «بينانس» و«كوين بايز»، لمشكلات قانونية وتبعات هذه المشكلات من تجميد أصول هذه الشركات في الولايات الأميركية، وتجميد قدرة أصحاب العملات المشفرة على القيام بخدمات السحب والإيداع على حساباتهم على هذه المنصات.
التأثير الأول والفوري للتحديات التي يواجهها عالم العملات المشفرة هو زيادة في المخاطر وعدم الاستقرار، ما يؤدي إلى فقدان الثقة، ليس فقط بالمنصات التي تعرّضت للانهيارات، لكن في بيئة أعمال عالم العملات المشفرة الموسّعة، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال انخفاض أسعار سوق العملات المشفرة وتراجع الثقة في البورصات الأخرى.
مستقبل «ويب 3.0»
وهنا نبدأ بتسليط الضوء على مستقبل «ويب 3.0»، الذي انبثق من فكرة رؤية جديدة لنظام ونماذج عمل تُبنى على شبكة إنترنت لامركزية مملوكة للمستخدم، وتُستخدم العملات المشفرة فيه لتمكين المعاملات مباشرة بين الأفراد دون وسيط أو الحاجة لمشرّع، إضافة إلى منح المستخدمين حصصاً وعوائد اقتصادية من الشبكات اللامركزية التي يستخدمونها، وأحد أهم هذه الاستخدامات هي الـ«NFTs» أو الأصول الرقمية التي تمثل ملكية عناصر أو محتوى فريد، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإحدى هذه الشبكات اللامركزية وهي شبكة العملات المشفرة «إيثيريوم بلوك تشين».
وبالرغم من ارتباطها بالعملات المشفرة، من الخطأ النظر إلى مستقبل «الويب 3.0» والـ«NFTs» بشكل حصري على أنها امتدادات لها، ففي عام 2000، وهو العصر الذهبي لفقاعة «الدوت كوم» أو ما يعرف بـ«الويب 1.0»، ازدادت المخاطر وكانت هناك حالة من عدم الاستقرار وانتشرت ظاهرة الاحتيال الرقمي، وتعالت الصيحات آنذاك لأخذ الحيطة والحذر من شركات «الدوت كوم» التي لم تُبنَ لتطبيق نماذج عمل تجارية، وإلى ضرورة الابتعاد عن الشبكة العنكبوتية «الشريرة»، لكن رغم كل التحذيرات ورغم خسارة العديد من المستثمرين لملايين الدولارات في مطاردة أحلام «الدوت كوم»، شهدنا ولادة الـ«ويب 2.0» والعديد من الشركات المليارديرة التي خلقت قيمة مضافة رقمية مميزة لملايين البشر مثل «غوغل» وغيرها من عمالقة التكنولوجيا.
ومن هذا المنطلق، فإني أرى أن نماذج الـ«ويب 3.0» والـ«NFTs» تمر الآن بمرحلة شبيهة بأيام فقاعة «ويب 1.0» الأولى، وأن مستقبل هذه النماذج هو مستقبل مبهر، إذ إنها في الأساس تقنيات ناشئة لديها قدرة غير مسبوقة على النمو بشكل متسارع كمثيلاتها من تقنيات الثورة التكنولوجية الرابعة وبالتالي لديها قدرة غير مسبوقة على تمكين نماذج تجارية جديدة وتفعيل قدرتها على الاستفادة من مبادئ اللامركزية وإعادة تعريف حياتنا الرقمية، ما يمنح المستخدمين تحكماً غير مسبوق في بياناتهم وأصولهم الرقمية وتفاعلاتهم عبر الإنترنت.
أطر تنظيمية قوية
أعلم أن عالم العملات المشفرة قد وُلد من رحم محاولة الابتعاد عن الأطر التنظيمية، لكن اهتزاز الثقة نتيجة الأحداث الأخيرة في هذا العالم يسلط الضوء على الحاجة إلى أطر تنظيمية أقوى لضمان حماية المستثمرين ومنع التلاعب المحتمل بالسوق، يمكن أن يؤدي الوضوح التنظيمي الأكبر إلى نظام تشفير أكثر استدامة وأماناً، وتكون الاستفادة منه في هذه الحالة ليست حصراً على حاملي العملات المشفرة، بل لمستخدمي تطبيقات الـ«ويب 3.0» والـ«NFTs»، وعلاوة على ذلك يمكن أن تمهد هذه التحديات وعدم الاستقرار في السوق الحالي الطريق أمام أجيال جديدة من المطورين المبتكرين والمبدعين لتطوير نماذج عمل تجارية تدمج المزيد من تقنيات الثورة التكنولوجية الرابعة مثل الذكاء الاصطناعي مع تطبيقات «ويب 3.0» والـ«NFTs» لتطوير منصات أكثر أماناً وكفاءة وموثوقية، وبيئة تفاعلية مدعمة بنظم تشفير أكثر قوة ومرونة في المستقبل، تقدم قيماً مضافة بمفاهيم جديدة وضمن نماذج اقتصادية لامركزية مبتكرة، تضفي الطابع الديمقراطي على الاقتصادات الرقمية من خلال إنشاء نماذج جديدة من التفاعل عبر الإنترنت والشبكات اللامركزية.
عنوان المرحلة التي نعيشها هو أن البقاء لم يعد للأقوى، بل لمن لديهم القدرة على التكيف مع مستقبل غير مسبوق بالسرعة الكافية، الاعتيادي في هذا المستقبل هو غير الاعتيادي، وهذه دعوة ليست للتشاؤم بل للتفاؤل، فهذه العواصف والاضطرابات في عالم العملات المشفرة سيتم ذكرها عبر التاريخ كمجرد عثرة في الخطوات الأولى التي خطتها البشرية بتاريخ حافل من الابتكارات في مستقبل «الويب 3.0» والـ«NFTs» والآفاق الواعدة التي كانت تكمن وراء هذه العواصف.
* رامي الكرمي أستاذ في الريادة والابتكار في جامعة الحسين التقنية في الأردن، ومتحدّث ومستثمر ومستشار متخصص في تطوير بيئة الريادة والإبداع من خلال إحداث الفوضى الخلاقة وتطوير ودمج نماذج عمل تجارية تسخّر تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتقنيات البلوك تشين.
** الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».