لا شك أن الفعاليات المرتبطة بالتصدي لظاهرة تغير المناخ مثل مؤتمر الأطراف (كوب 28) تحمل أهميةً تتجاوز في أبعادها إجراء النقاشات وطرح العناوين الرنانة واختبار التجارب المؤقتة التي تنتهي مع الفعالية، إذ تكمن الغاية الأساسية من استضافة فعاليات من هذا النوع، لا سيما بالنسبة لدولة الإمارات التي احتضنت مؤتمر كوب 28، في ضمان التأسيس لإرث ثقافي يتجه بالمشهد البيئي إلى آفاق أكثر وعياً واستدامة، وهذا ما يمكنني التأكيد عليه بعد أن أمضيت عدة أيام في مركز التعليم الأخضر، الذي نظمته وزارة التربية والتعليم الإماراتية، إذ يمكنني القول -وبكل ثقة- إن ما رأيته من أنشطة وإبداعات ستحفّز جيلاً جديداً من داعمي البيئة بين أوساط الشباب الإماراتي.
وتم إنشاء هذا المركز لتسليط الضوء على أهمية التعليم في معالجة قضايا المناخ، وتبرهن النقلة النوعية لجامعة زايد على مدى التحول النموذجي الذي بلغه التعليم العالي، حيث تغيّرت النظرة تجاه مفهوم الاستدامة من مجرد قضية هامشية إلى عنصر أساسي لبناء قادة المستقبل.
وأصبح من الضروري للغاية دمج الاستدامة في النظام التعليمي، حيث تتطلب التحديات الملحّة -مثل التغير المناخي واستنزاف الموارد والتدهور البيئي- إحداث تغييرات جوهرية على مستوى القطاع التعليمي، من خلال تعزيز دور الجامعات في إعداد الطلاب للتعامل مع هذا الواقع الجديد وتولي المسؤولية القيادية لمواجهته، وتُعدّ المبادرة الجريئة التي أطلقتها جامعة زايد في هذا الصدد تطوراً ضرورياً يتماشى مع المتطلبات الناشئة لعصرنا.
وتكمن مميزات برنامج تعليم الاستدامة في منهجيته الشاملة والوافية، لأنه لم يعتمد على إضافة مادة دراسية واحدة تتعلق بالاستدامة، بل أطلق برنامجاً مستقلاً يقوم على منهجية متعددة التخصصات تؤكد أهمية الترابط الاجتماعي والاقتصادي والبيئي في استنتاج الحلول الضرورية.
وساد التوجه في السابق نحو مساواة التعليم المستدام مع العلوم البيئية، لكن هذه الرؤية لم تعد مجديةً في عصرنا الحالي، لأن معالجة التعقيدات الهائلة للتغير المناخي تستلزم تطوير التعليم المستدام وتوسيع نطاقه ليشمل مجموعة واسعة من التخصصات، بما في ذلك مجالات الأعمال التجارية والسياسة الحكومية والعلوم والتكنولوجيا، وتفرض صعوبة التحدي الناجم عن التغير المناخي بذل جهود تتجاوز النطاق الضيق لبعض التخصصات، وتدمج الرؤى والمساهمات لدى مختلف الخبرات من جميع الاختصاصات لتشكّل مع بعضها فِرقاً متناغمة تعمل لهدف واحد.
وتحتاج هذه الفرق إلى اكتساب العديد من المهارات العملية، بما في ذلك منهجيات حل المشكلات والتفكير النقدي والتواصل الفعال، وهي كفاءات بالغة الأهمية في أي بيئة مهنية، كما أن فهم قضايا الاستدامة يمثّل جزءاً بسيطاً من المسألة الأوسع، ولكن ما يساويه بالأهمية هو القدرة على تطبيق هذا الفهم في سيناريوهات العالم الحقيقي ونقل الأفكار بشكل مقنع إلى الزملاء أو العملاء.
وبالنسبة للجامعات، يتعين علينا الاهتمام بالطلاب الذين يتقنون تحليل البيانات المناخية وتطوير الخوارزميات للتنبؤ بأنماط الطقس وفهم تأثيرات انبعاثات الكربون، ويتحلون بالوعي الكافي للتشكيك في الفرضيات وبناء حجج منطقية بشكل جيد وإيجاد الحلول الإبداعية، ويشكل التركيز على التفكير النقدي أمراً مهماً بدوره، فغالباً ما تتطلب معالجة التحديات في العالم الحقيقي فهماً دقيقاً للموقف واتخاذ قرارات متوازنة.
وينبغي على التعليم المستدام الالتزام بقضايا تتجاوز إعداد الطلاب لمسارات مهنية ديناميكية، بما في ذلك بناء مجتمع يتسم مواطنوه بالتشاركية والابتكار والتركيز على الارتقاء بالمجتمع الأوسع، وبات من الضروري التركيز على إعداد قادة مسؤولين اجتماعياً ويتحلون بالوعي البيئي، لا سيما في عصرنا الذي يشهد العديد من التحديات البيئية والاجتماعية غير المسبوقة.
وبرز من بين المبادرات الجديدة والمتعددة التي أطلقها مركز التعليم الأخضر خلال مؤتمر الأطراف كوب 28 برنامج كليات إدارة الأعمال للقيادة المناخية في الشرق الأوسط، والذي يجمع تحت مظلته مختلف الجامعات في جميع أنحاء المنطقة، ويعمل البرنامج الذي تشرف عليه مبادرة مبادئ التعليم الإداري المسؤول المدعومة من الأمم المتحدة، على وضع القيادة المناخية في صلب البرامج التعليمية والتدريب الرائد على مستوى محو الأمية الكربونية في المنطقة، ونفخر في كلية الدراسات متداخلة التخصصات في جامعة زايد بقيادة الجهود الرامية إلى توطين التدريب على محو الأمية الكربونية بالتعاون مع شركائنا في منطقة الشرق الأوسط، كما نفخر بتميزنا عن كليات إدارة الأعمال التقليدية، حيث تبذل كليتنا جهوداً استثنائية لدمج دراسات الأعمال والاقتصاد وقضايا العلوم السياسية والبيئية ضمن رؤية رائدة تعتمد منهجيةَ متعددِ التخصصات لمعالجة هذه التحديات بطريقة فعّالة.
كما عُرضت إنجازات مجموعة من 29 طالباً لدينا، ممن شاركوا في نموذج محاكاة قمة المناخ برعاية الأمم المتحدة في الجامعة البريطانية في مصر خلال شهر نوفمبر تشرين الثاني الماضي، ولعب الطلاب دور صنّاع السياسات والمفاوضين والناشطين، وتعمّقوا في تعقيدات الدبلوماسية البيئية الدولية، وتعلموا من خلال هذه التمارين الكثير عن تعقيدات الإدارة البيئية العالمية، وتعرّفوا على أسباب التباينات في آراء الجهات المعنية وفن الموازنة بين الاهتمامات البيئية والأولويات الاقتصادية والاجتماعية.
والآن، وبعد انتهاء فعاليات الدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأطراف، يمكنني القول إن المناقشات التي انعقدت قبل هذه الفعالية البارزة وخلالها أسهمت في تغيير الرؤية نحو الأفضل، وإذ نتطلع إلى المستقبل ونسعى جاهدين إلى تحقيق الأهداف الطموحة في خطة مئوية الإمارات 2071، تزداد المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسات التعليمية في هذا الصدد، لأن مساهمتنا النشطة في بناء مستقبل مستدام وعادل تنطلق من خلال تزويد الطلاب بالمهارات والأسس الأخلاقية لاتخاذ قرارات واعية ومؤثرة.
*بول ج. هوبكنسون هو عميد كلية الدراسات متداخلة التخصصات بجامعة زايد الإماراتية.. عمل بول في الأوساط الأكاديمية لأكثر من 20 عاماً وتولى أدواراً قيادية في مجال التسويق.. خلال حياته المهنية قاد بول عملية تطوير وتقديم برامج التسويق والقيادة والعمل بالتعاون مع أصحاب العمل والهيئات المهنية والشركاء الدوليين.
** الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية»