منذ عام 1990 لم تفارق ذاكرتي صورة البط السابح في المياه الممزوجة بالزيت والنفط، فمنذ أن صُدم العالم بمشهد هذا البط الغارق في بحيرات النفط في الخليج العربي، بعد أن أضرمت الحرب نارها في الأرض والماء، لم يكن ذلك المشهد مجرد كارثة بيئية، بل إنذاراً مبكراً عن مستقبل مختل التوازن.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، تعيش أوروبا فصلاً جديداً من الكارثة، لكن هذه المرة بلا قنابل بل بحرارة قاتلة، وجفاف زاحف، وعواصف غير مألوفة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
تغير المناخ لم يعد حكاية المستقبل، بل واقعاً يضرب الاقتصاد، ويغير سلوك الإنسان، ويعيد تشكيل الحياة من البحر المتوسط حتى قلب القارة العجوز.
لم يعد تغير المناخ مسألة بيئية فحسب، بل تحول إلى معضلة اقتصادية واجتماعية تهز أركان أوروبا، خلال العقد الأخير فقط، خسرت القارة أكثر من 145 مليار يورو بسبب الكوارث المرتبطة بالمناخ، بحسب تقارير وكالة البيئة الأوروبية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
بين موجات حر، فيضانات، حرائق غابات، وجفاف ضرب الإنتاج الزراعي، أصبحت الدول الأوروبية تدفع فواتير ضخمة لا تقتصر على الإصلاحات والبنى التحتية، بل تمتد إلى التأمينات الصحية، والتأثير على أسواق العمل، وتراجع الإنتاجية.
القبة الحرارية في أوروبا.. ظواهر استثنائية
تاريخياً، لم تكن أوروبا معتادة على موجات حرّ طويلة وقاسية، لكن منذ عام 2003، الذي شهد موجة حرّ قاتلة حصدت أكثر من 70 ألف ضحية، تغير كل شيء.
في العقد الأخير، ارتفع عدد أيام "الحرارة الشديدة" في أوروبا بنحو ضعف ما كان عليه قبل عام 1990، فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا أصبحت تشهد درجات حرارة تتجاوز 45 مئوية، مسببة شللاً في الحياة العامة، وارتفاعاً في معدلات الوفاة، وذوباناً في البنية التحتية نفسها، من قضبان القطارات إلى طرق الأسفلت.
هذا التحول لم يعد مجرد أزمة طقس، بل أصبح معضلة اقتصادية؛ ففي ألمانيا وحدها تسببت موجة الحر عام 2022 بخسائر زراعية تجاوزت 3 مليارات يورو نتيجة الجفاف وحرائق الغابات.
سلوك الإنسان يتغير مع المناخ
تحت ضغط هذه الظروف، بدأ سلوك الإنسان الأوروبي يتغير، سُجل تراجع في ساعات العمل خلال فصول الصيف، وارتفعت نسب التغيب لأسباب صحية مرتبطة بالإجهاد الحراري، بدأت المدن تعيد النظر في تخطيطها العمراني، حيث يرتفع الطلب على المساحات الخضراء وأنظمة التهوية المستدامة.
كذلك، تغيرت الأنماط الاستهلاكية، ارتفع الطلب على أجهزة التكييف بنسبة نحو 20% سنوياً في بلدان لم تكن تعتمد عليها سابقاً، مثل المملكة المتحدة وهولندا، كل هذا ينعكس على فاتورة الطاقة، ويزيد الضغط على شبكات الكهرباء، التي هي أصلاً مهددة من موجات الحرارة والجفاف.
البحر المتوسط.. مرآة اضطرابات المناخ
المنطقة المتوسطية، التي كانت تعرف بتوازن مناخي لطيف، أصبحت اليوم من أكثر المناطق سخونة وتطرفاً مناخياً في العالم، شهدت الأعوام الأخيرة ظواهر غير معتادة، مثل العواصف المفاجئة، وانخفاض منسوب الأمطار بنسبة 15-30%، وارتفاع حرارة المياه، ما أثر على الثروة السمكية والنقل البحري.
في إيطاليا واليونان، تراجعت المحاصيل الزراعية بشكل ملحوظ، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الزيتون والقمح، أما في تونس والجزائر، فإن التصحر والزحف البحري يهددان بإفراغ القرى الساحلية وتفاقم البطالة في قطاعات السياحة والزراعة.
لا اقتصاد مزدهراً تحت سماء مختلة
إذا استمرت أوروبا في التعامل مع التغيّر المناخي كأزمة مؤقتة، فإن الخسائر ستتضاعف، والمطلوب ليس فقط تحوّلاً في البنية التحتية، بل إعادة نظر جذرية في أنماط الإنتاج والاستهلاك، وتعزيز السياسات الوقائية مثل الزراعة الذكية، والبناء الأخضر، والاستثمار في الطاقة المتجددة.
الأرقام لا تكذب، والمناخ لا ينتظر أوروبا، بقوتها الصناعية والمالية، مطالبة اليوم بقيادة التحول العالمي نحو اقتصاد مقاوم للمناخ، قبل أن تجد نفسها تدفع الثمن الأكبر، فرسائل البحار المختلة تشير إلى ما يرفضه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يفكر في بناء قبة ذهبية فوق أميركا، فهل تنجح فكرة ترامب القديمة الحديثة قبل أن تتحول إلى قبة حرارية مثل التي فوق أوروبا؟