تصور أنك تمتلك جهازاً قادراً على حل مسائل رياضية وعلمية معقدة في دقائق معدودة، بينما تحتاج الحواسيب التقليدية إلى آلاف السنين لإنجازها، هذا ليس خيالاً علمياً؛ بل هو وعد الحوسبة الكمومية، التكنولوجيا التي يُتوقع أن تحدث ثورة في جميع المجالات، من الاقتصاد إلى الطب حتى المناخ.
في عام 2019، أعلنت « غوغل» عن تحقيق «التفوق الكمومي»، وهو إنجاز أظهر أن الحوسبة الكمومية تتفوق بمراحل على الحواسيب التقليدية في حل معادلات معقدة، جهاز «غوغل» الكمومي استطاع حل معادلة رياضية خلال 200 ثانية، بينما تحتاج الحواسيب التقليدية إلى 10,000 سنة لحل المشكلة نفسها، هذا الإنجاز فتح الأبواب أمام عصر جديد في معالجة البيانات.
الحوسبة الكمومية تعتمد على مفاهيم فيزيائية مثل «التراكب» و«التشابك»، على عكس الحواسيب التقليدية التي تعتمد على البتات الثنائية (0 أو 1)، تستخدم الحواسيب الكمومية «الكيوبتات» التي يمكن أن تكون في حالة 0 و1 في الوقت نفسه، هذه القدرة تمنح الحوسبة الكمومية سرعة هائلة في معالجة البيانات المعقدة التي يصعب على الحواسيب التقليدية التعامل معها.
استثمارات ضخمة تؤكد المستقبل الواعد
العالم يُدرك الآن الإمكانات الهائلة للحوسبة الكمومية، الاستثمارات في هذه التكنولوجيا بلغت أكثر من 55 مليار دولار على مستوى العالم، بقيادة الصين التي تقود هذا السباق بقوة، السوق الكمومية تُقدر حالياً بأكثر من مليار دولار ومن المتوقع أن تصل إلى ما بين 450 مليار دولار و850 مليار دولار من القيمة الاقتصادية بحلول عام 2040، وفقاً لتقرير صادر عن Boston Consulting Group.
في أوروبا، أطلقت ألمانيا خطة استثمارية بقيمة 3 مليارات دولار، بينما تعمل فرنسا على استثمار مليارَي دولار لتدريب 5,000 مهندس متخصص وخلق 30,000 وظيفة جديدة، في الولايات المتحدة تجاوزت الاستثمارات العامة والخاصة مليارات الدولارات، ما يعكس الطموح لتحويل هذه التكنولوجيا إلى قوة دافعة للنمو الاقتصادي والأمن القومي.
قدرات لا مثيل لها.. كيف ستغير الحوسبة الكمومية العالم؟
1. تسريع اكتشاف الأدوية:
اكتشاف الأدوية عملية تستغرق حالياً أكثر من 10 سنوات وتكلف مليارات الدولارات، الحوسبة الكمومية يمكنها محاكاة الجزيئات الكيميائية والتفاعلات الدوائية بشكل أسرع بملايين المرات، ما قد يقلص وقت التطوير إلى أشهر قليلة ويوفر مليارات الدولارات.
2. تحسين اللوجستيات وسلاسل التوريد:
قطاع الشحن والتوريد، الذي يواجه خسائر تصل إلى تريليونات الدولارات بسبب التعطلات، يمكن أن يستفيد بشكل كبير من الحوسبة الكمومية، على سبيل المثال يمكن لهذه التكنولوجيا تحسين مسارات الشحن وتوفير مليارات الدولارات من خلال حلول فعالة في الوقت الفعلي.
3. مواجهة التحديات المناخية:
تغير المناخ يمثل تحدياً عالمياً كبيراً، باستخدام الحوسبة الكمومية يمكن تحليل بيانات مناخية تمتد لعقود لوضع نماذج تنبؤية دقيقة، ما يساعد الحكومات والشركات على اتخاذ قرارات استراتيجية للتخفيف من الكوارث البيئية.
4. تطوير بطاريات المستقبل:
يمكن للحوسبة الكمومية تحسين تصميم البطاريات الكهربائية، ما يؤدي إلى إنتاج بطاريات تدوم لمسافات تزيد على 1000 كيلومتر بشحنة واحدة، هذا التقدم سيُحدث تحولاً في قطاع السيارات الكهربائية ويُسرّع التحول نحو طاقة نظيفة ومستدامة.
التحديات على الطريق
رغم الإمكانات الهائلة، لا تزال الحوسبة الكمومية تواجه تحديات تقنية، تحتاج الأجهزة إلى بيئات تشغيل خاصة تعمل في درجات حرارة قريبة من الصفر المطلق، ما يجعل التكلفة مرتفعة. بالإضافة إلى ذلك، هناك نقص عالمي في المهارات المتخصصة في هذا المجال، حيث تتوقع التقارير أن نصف الوظائف في القطاع ستظل شاغرة بحلول عام 2025.
المستقبل الواعد
السوق الكمومية ليست مجرد فكرة للمستقبل؛ إنها حقيقة تتطور بسرعة، ويتوقع أن تبلغ إيرادات السوق الكمومية 6.5 مليار دولار بحلول عام 2030، والقطاعات الأكثر استفادة تشمل الطب، والطاقة، والنقل، والخدمات المالية، ومع ذلك فإن التأثير الأكبر للحوسبة الكمومية سيكون على المدى الطويل، حيث يُتوقع أن تُحدث هذه التكنولوجيا تحولاً جذرياً في الطريقة التي تعمل بها الاقتصادات العالمية.
المستقبل يحمل في طياته فرصاً غير محدودة، والحوسبة الكمومية ليست مجرد أداة لتحسين الأداء؛ إنها تكنولوجيا ستُعيد تعريف الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، نحن نقف الآن على أعتاب ثورة جديدة ستغير أسس العالم كما نعرفه.
بقلم د. يسار جرار؛ أستاذ بكلية هولت للأعمال، الولايات المتحدة والمدير التنفيذي لـGov Campus.