بدأ وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو زيارته الرسمية إلى بنما، وسط تصاعد الجدل حول مزاعم الإدارة الأميركية بأن قناة بنما قد أصبحت تحت «نفوذ أجنبي»، في إشارة إلى الاستثمارات الصينية في الموانئ القريبة من القناة.
وتأتي هذه الزيارة بعد تصريحات متكررة من الرئيس دونالد ترامب، أكد فيها أن واشنطن يجب أن «تستعيد السيطرة» على القناة، ما أثار توتراً دبلوماسياً مع الحكومة البنمية التي شددت على سيادتها الكاملة على الممر المائي الحيوي، وفي ظل هذه التوترات يترقب المراقبون مخرجات لقاء روبيو مع الرئيس البنمي خوسيه راؤول مولينو الذي سبق أن أكد أن «سيادة بنما على القناة ليست محل نقاش».
وتعد زيارة روبيو أول رحلة رسمية له كأكبر دبلوماسي في الولايات المتحدة، وتعدّ محطته الأولى في بنما الأكثر إثارة للجدل، في ظل مطالب الرئيس دونالد ترامب المتكررة بالسيطرة على قناة بنما.
ومع ذلك، لا يبدو أن إدارة ترامب مستعدة للتراجع، فقد ذكر ترامب اسم «بنما» ست مرات في خطاب تنصيبه، أكثر من أي دولة أخرى، بينما يروّج هو وحلفاؤه الجمهوريون لفكرة أن القناة أصبحت سراً تحت سيطرة الجيش الصيني، مبررين بذلك ضرورة استعادة الولايات المتحدة السيطرة عليها.
وخلال جلسات تأكيد تعيينه في مجلس الشيوخ، صرّح روبيو بأن «قوة أجنبية تمتلك اليوم، عبر شركاتها، القدرة على تحويل القناة إلى نقطة اختناق في حالة حدوث صراع»، مشدداً على أن ذلك يشكّل «تهديداً مباشراً للمصلحة والأمن القومي الأميركي».
لكن، هل تعكس هذه الادعاءات الواقع؟
نعرض في ما يلي تحليلاً دقيقاً عن الحقائق المتعلقة بالجدل الدائر حول قناة بنما.
هل القناة تحت سيطرة الصين؟
لطالما اشتكى ترامب من «الصفقة السيئة» التي عقدها الرئيس جيمي كارتر عام 1977 لإعادة القناة إلى بنما، لكنه صعّد من خطابه بشأنها منذ بداية ولايته الثانية.
وقال ترامب خلال خطاب تنصيبه: «وعد بنما لنا قد تم خرقه، الصين تدير قناة بنما، ولم نعطها للصين، بل أعطيناها لبنما، ونحن سنستعيدها!».
وفي منشورات على منصته «تروث سوشيال»، زعم ترامب –دون تقديم دليل– أن جنوداً صينيين انتشروا في القناة، وأن بنما تسارع لإزالة 64% من اللافتات المكتوبة باللغة الصينية.
لكن هذه المزاعم لا تستند إلى واقع حقيقي؛ فـ«المنطقة» التي يشير إليها ترامب –وهي منطقة أميركية سابقة على حدود القناة– لم تعد موجودة منذ عام 1979.
والأكثر من ذلك، أن السيناريو الذي يتحدث عنه ترامب يبدو أقرب إلى حبكة فيلم سينمائي، مثل فيلم «خياط بنما» (The Tailor of Panama) الصادر عام 2001، حيث تغزو الولايات المتحدة بنما بناءً على معلومات استخباراتية زائفة تفيد بأن الصين تحاول شراء القناة سراً.
في الواقع، تدير سلطة قناة بنما القناة منذ عام 2000، وهي هيئة مستقلة تعيّن إدارتها الحكومة البنمية، فيما تتولى شركات متعددة تشغيل الموانئ القريبة من القناة، ولا يوجد دليل على أي وجود عسكري صيني في بنما، وهو ما أكده مولينو في مؤتمره الصحفي الأخير، موضحاً أن الولايات المتحدة لم تقدم أي دليل لدعم هذه الادعاءات.
ماذا يقصد روبيو بـ«القوة الأجنبية»؟
تركز إدارة ترامب على أن شركة «بنما بورتس»، التابعة لمجموعة CK Hutchison Holdings ومقرها هونغ كونغ، تدير محطتين بحريتين على جانبي القناة، لكن شركات أخرى تقوم بالدور نفسه.
وقد حصلت هاتشيسون على امتياز تشغيل الموانئ في عام 1997، عندما كانت الولايات المتحدة لا تزال تشارك في إدارة القناة، وفي العام نفسه، انتقلت السيطرة على هونغ كونغ من بريطانيا إلى الصين.
ومع أن هاتشيسون تقع تحت النفوذ الصيني، فإنها ليست واجهة للجيش الصيني، بل شركة مدرجة في البورصة وتدير 53 ميناءً في 24 دولة، من بينها المملكة المتحدة وأستراليا وكندا. والأهم أنها لا تتحكم في القناة نفسها، بل يقتصر عملها على تحميل وتفريغ السفن وتزويدها بالوقود، بينما يعمل مرشدو القناة البنميون على قيادة السفن عبرها.
وبعد تصريحات ترامب، أعلنت حكومة بنما عن مراجعة امتياز «بنما بورتس»، فيما أكدت الشركة التزامها الكامل بالتدقيق، بل ودعت روبيو لزيارة منشآتها.
هل يمكن للولايات المتحدة قانونياً الاستيلاء على القناة؟
وفقاً لمعاهدة عام 1977، أعادت الولايات المتحدة القناة إلى بنما مقابل ضمان حيادها، وتسمح المعاهدة بتدخل عسكري أميركي إذا تعطلت عمليات القناة بسبب نزاع داخلي أو تهديد أجنبي، وهو ما يستند إليه ترامب في تهديده بـ«استعادة القناة».
لكن الواقع لا يشير إلى أي تهديد أو اضطراب، بل إن توسعة القناة التي مولتها بنما بتكلفة تفوق 5 مليارات دولار، زادت من حجم الشحنات المارة عبرها مقارنة بالفترة التي كانت فيها تحت الإدارة الأميركية.
أي محاولة أميركية للاستيلاء على القناة ستتعارض مع القانون الدولي ومعاهدة 1977، ما يعرض واشنطن لعواقب دبلوماسية جسيمة.
ماذا سيحدث إذا حاولت الولايات المتحدة الاستيلاء على القناة؟
منذ الغزو الأميركي لبنما عام 1989، لم تعد البلاد تمتلك جيشاً، لكن البنميين يعتبرون القناة جزءاً من هويتهم الوطنية، وأي محاولة أميركية للسيطرة عليها بالقوة قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة على المصالح الأميركية نفسها.
الهجرة
تهديد بنما قد يؤدي إلى فتح فجوة «داريين»، وهي الغابة التي يعبرها مئات الآلاف من المهاجرين من أميركا الجنوبية إلى الولايات المتحدة، وكان مولينو قد وعد ترامب بالمساعدة في إغلاق هذه الفجوة، لكنه قد يتراجع عن التزامه إذا حدث تدخل عسكري أميركي.
الاقتصاد
نحو 40% من حركة الحاويات الأميركية تمر عبر القناة، وأي تعطيل قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأميركية، من السيارات إلى الأحذية الرياضية.
المواطنون الأميركيون في بنما
يعيش في البلاد نحو 25,000 أميركي، وقد يكونون في خطر إذا حدث تصعيد عسكري.
الصورة العالمية للولايات المتحدة
التراجع عن معاهدة تاريخية ومحاولة استعادة القناة بالقوة سيكون هدية دعائية للصين وروسيا اللتين تؤكدان على ضرورة الحفاظ على حياد القناة.
التوترات في أميركا اللاتينية
عمليات الترحيل الجماعية التي ينفذها ترامب بالفعل أثارت استياء العديد من دول المنطقة، وأي عمل عسكري قد يزيد من عزلة واشنطن هناك.
باختصار، يبدو أن حلم ترامب برفع العلم الأميركي فوق القناة سيكلف الولايات المتحدة أكثر مما قد يتخيله.