تمر ألمانيا بمرحلة مفصلية في تاريخها الاقتصادي، إذ تتزامن أطول فترة ركود اقتصادي في وقت السلم مع تصاعد المخاوف بشأن مستقبل النمو والتكنولوجيا. فبينما تستعد البلاد للانتخابات الفيدرالية القادمة، يتساءل الناخبون والمحللون عن مدى قدرة الحكومة المقبلة على إيقاف التراجع الاقتصادي وإعادة بناء القوة الصناعية الألمانية، التي كانت في يوم من الأيام مصدر فخر أوروبا.
تراجع اقتصادي حاد وأزمة إنتاجية
على الرغم من أن ألمانيا لطالما كانت تُعرف بأنها قاطرة الاقتصاد الأوروبي، فإنها اليوم تعاني ركوداً اقتصادياً طويل الأمد، إذ لم يشهد الناتج المحلي الإجمالي أي نمو حقيقي خلال العقد الماضي. ومع وجود «كبح الديون» كإجراء دستوري يمنع الحكومة من زيادة الإنفاق لتحفيز الاقتصاد، تزداد التحديات أمام السياسيين لإيجاد حلول فعالة.
في العقود الماضية، اعتمد الاقتصاد الألماني على التصنيع الثقيل، بما في ذلك إنتاج الصلب، الآلات، الكيماويات، والأدوية، إضافة إلى صناعة السيارات التقليدية التي كانت رمزاً للتفوق الصناعي الألماني. ومع تحول العالم نحو التكنولوجيا الرقمية والطاقة النظيفة، باتت ألمانيا متأخرة مقارنة بالولايات المتحدة والصين في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الرقائق الإلكترونية، وتقنيات البطاريات.
نزيف العقول وضعف الابتكار
يعود هذا التراجع إلى أسباب هيكلية عميقة، من بينها ضعف الاستثمار في البحث والتطوير مقارنة بالمنافسين العالميين. الجامعات الألمانية، التي كانت في السابق منارة للابتكار، تعاني اليوم تراجعاً في تصنيفاتها الأكاديمية، ما أدّى إلى هجرة العقول إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث تتوفر بيئات بحثية أكثر مرونة وتمويلاً، بحسب صحيفة ذا تلغراف.
في الماضي، كانت ألمانيا رائدة في التعليم والتكنولوجيا، لكنها لم تستطع الاستفادة من ثورة الإنترنت أو تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات بنفس السرعة التي فعلتها دول أخرى. اليوم، يُنظر إلى الصناعة الألمانية على أنها اقتصاد تناظري في عصر رقمي، ما يزيد صعوبة مواكبة المنافسة الدولية.
تحديات الطاقة والتجارة الخارجية
إلى جانب المشكلات التكنولوجية، تواجه ألمانيا أزمة في قطاع الطاقة بعد الاعتماد الكثيف على الغاز الروسي، الذي أصبح موضع شك بعد الحرب في أوكرانيا. فقد تسبب قرار التخلي عن الطاقة النووية والفحم في جعل الاقتصاد الألماني أكثر عرضة لاضطرابات الطاقة، ما أدّى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج الصناعي.
وعلى صعيد التجارة، ظلت ألمانيا تعتمد على الصادرات إلى الصين، لكن مع تغيير سياسات بكين نحو الاكتفاء الذاتي الصناعي، بدأت الصادرات الألمانية في التراجع. وعلى الرغم من تفوق المنتجات الألمانية في الجودة، فإن الشركات الصينية بدأت بتقليد التكنولوجيا الألمانية وإنتاج نسخ أرخص، ما أضعف الميزة التنافسية للمنتجات الألمانية عالمياً.
أثر الركود في الساحة السياسية
تزامن هذا التراجع الاقتصادي مع صعود حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، الحزب اليميني الذي بدأ بجذب الناخبين الساخطين من السياسات التقليدية. فبعد أن كان الاقتصاد هو الدعامة الأساسية لاستقرار ألمانيا بعد الحرب، باتت الأزمة الاقتصادية الحالية تغذي الشعبوية القومية وتعيد إلى الأذهان مخاوف من عودة التطرف السياسي الذي عانته البلاد في القرن العشرين.
من جهة أخرى، يعاني فريدرش ميرتس، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، تحديات في تقديم رؤية اقتصادية متماسكة. فرغم أنه يعِد بتخفيض الضرائب وإلغاء أهداف صافي الانبعاثات الصفرية، فإنه لم يقدّم بعد حلولاً واضحة لمشكلات البيروقراطية والتنظيمات الصارمة التي تحد من تأسيس الشركات الناشئة في ألمانيا.
مستقبل الدفاع والإنفاق العسكري
مع تصاعد التهديدات الأمنية في أوروبا، يُتوقع أن تقوم الحكومة الألمانية الجديدة بزيادة الإنفاق العسكري بشكل كبير، سواء لدعم أوكرانيا أو لتعزيز جاهزية الجيش الألماني (البوندسفير).
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التزمت ألمانيا بسياسة دفاعية محدودة، لكن الضغوط المتزايدة من الولايات المتحدة والناتو قد تجبرها على تبني سياسات أكثر نشاطاً في المجال الدفاعي.
إصلاحات ضرورية للخروج من الأزمة
من الواضح أن ألمانيا بحاجة إلى إصلاحات جذرية إذا أرادت استعادة مكانتها الاقتصادية. تشمل هذه الإصلاحات:
- زيادة الاستثمار في التكنولوجيا والبحث والتطوير، بهدف اللحاق بركب الابتكارات العالمية.
- تخفيف القيود البيروقراطية التي تعوق نمو الشركات الناشئة.
- إعادة هيكلة قطاع الطاقة لضمان مصدر طاقة مستدام وفعّال للصناعات الثقيلة.
- تعزيز سياسات جذب المواهب لمنع نزيف العقول واستقطاب الكفاءات العالمية.
- تحفيز السوق المحلي وتقليل الاعتماد المفرط على الصادرات إلى الصين.
وتمر ألمانيا بمرحلة حرجة، إذ يتعين عليها الاختيار بين الركود أو التجديد. فالاقتصاد الذي صمد لعقود بفضل الصناعة التقليدية بات اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة ابتكار نفسه لمواجهة تحديات المستقبل. ومع التغيرات السياسية والاقتصادية العالمية، فإن الانتخابات القادمة قد تحدد ليس فقط مستقبل ألمانيا، بل أيضاً دورها في قيادة أوروبا اقتصادياً وسياسياً.