بدأ (هيديا توكيوشي) حياته المهنية مدرساً للغة الإنجليزية في طوكيو قبل حوالي 30 عاماً. ومنذ ذلك الحين، ظل راتبه دون تغير يُذكر. لهذا السبب، قبل ثلاث سنوات، وبعد أن فقد الأمل في راتب أعلى، قرر البدء في كتابة الكتب.
يقول (توكيوشي)، البالغ 54 عاماً، «أشعر أنني محظوظ، لأن كتابة الكتب وبيعها تمنحني دخلاً إضافياً. لولا ذلك، لظللت عالقاً في دائرة الأجور نفسها.. وهكذا استطعت العيش».
مدرسنا جزء من جيل للعاملين في اليابان يكاد لم يحصل على زيادة واحدة خلال حياته العملية. لكن مع ارتفاع الأسعار بعد عقود من انكماشها، يضطر ثالث أكبر اقتصاد في العالم إلى التعامل مع المشكلة الرئيسية المتمثلة في انخفاض مستويات المعيشة، وتواجه الشركات ضغوطاً سياسية شديدة لدفع المزيد لموظفيها.
فقد حث رئيس الوزراء الياباني (فوميو كيشيدا) الشركات على مساعدة العمال على مواكبة ارتفاع تكاليف المعيشة. وفي الشهر الماضي، دعا الشركات إلى رفع الأجور عند مستوى أعلى من التضخم، وهو ما استجاب له البعض بالفعل.
وشأنها شأن أجزاء أخرى من العالم، أصبح التضخم في اليابان مصدر إزعاج كبير. فعلى مدار 2022، ارتفعت أسعار المستهلكين الأساسية أربعة في المئة. وهذا معدل منخفض بالمقارنة مع الولايات المتحدة أو أوروبا، لكنه الأعلى في 41 عاماً لليابان، حيث اعتاد الناس على انخفاض الأسعار لا ارتفاعها.
يقول (ستيفان أنجريك)، كبير الاقتصاديين لدى (موديز أناليتكس) المقيم في طوكيو، متحدثاً إلى (CNN) «في بلد لم يشهد نمواً اسمياً للأجور على مدار 30 عاماً، تنخفض الأجور الحقيقية بسرعة كبيرة نتيجة [للتضخم]».
وفي الشهر الماضي، سجلت اليابان أكبر انخفاض في أرباح الشركات، عند أخذ التضخم في الحسبان، منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
مشكلة يابانية طويلة الأمد
في 2021، كان متوسط الراتب السنوي في اليابان 39 ألفاً و711 دولاراً، مقارنة مع 37 ألفاً و866 دولاراً في 1991، وفقًا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية
يعني ذلك أن العمال حصلوا على زيادة في الأجور تقل عن خمسة في المئة، مقارنة بارتفاع بلغ 34 في المئة في سائر اقتصادات مجموعة السبع، مثل فرنسا وألمانيا، لنفس الفترة.
ويشير الخبراء إلى سلسلة من الأسباب لركود الأجور. فهناك أولاً، أن اليابان، ولفترة طويلة، كانت في مواجهة مع أزمة هي على النقيض مما تواجهه الآن: انكماش الأسعار. بدأ ذلك الانكماش في منتصف التسعينيات، بسبب قوة الين – التي أدت إلى انخفاض تكلفة الواردات – وانفجار فقاعة الأصول المحلية.
قالت (موج أداليت مكغوان)، كبيرة الاقتصاديين في مكتب اليابان بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، «على مدار العشرين عاماً الماضية، لم يكن هناك أي تغيير في تضخم أسعار المستهلكين».
وأضافت أنه حتى الآن، لم يكن المستهلكون ليواجهوا ضربة في محافظهم أو يشعروا بالحاجة إلى المطالبة بأجر أفضل.
لكن مع ارتفاع التضخم، من المرجح أن يبدأ الناس في الشكوى «بشدة» من عدم زيادة الأجور، كما يتوقع (شينتارو ياماغوتشي)، أستاذ الاقتصاد بجامعة طوكيو.
سوق عمل في مهب التحولات
يقول الخبراء إن أجور العاملين في اليابان عانت أيضاً من التأخر على مقياس آخر: معدل الإنتاجية.
فناتج الدولة، الذي يقاس بمقدار العمال الذين يضيفون إلى الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما في الساعة، أقل من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو «ما قد يكون السبب الأكبر» للأجور الثابتة، وفقًا لما قاله (ياماغوتشي).
تقول (مكغوان) «بشكل عام، نمو الأجور ونمو الإنتاجية يسيران جنباً إلى جنب.. عندما يكون هناك نمو في الإنتاجية، تعمل الشركات بشكل أفضل و[عندما] تعمل بشكل أفضل، يمكنها تقديم أجور أعلى».
وأضافت أن شيخوخة السكان في اليابان عامل إضافي لأن القوى العاملة الأكبر سناً تكون في العادة أقل إنتاجيةً وأجوراً. كما أن الطريقة التي يعمل بها الناس تتغير هي الأخرى.
ففي عام 2021، كان ما يقرب من 40 في المئة من إجمالي القوى العاملة في اليابان يعملون بدوام جزئي أو لساعات غير منتظمة، ارتفاعًا من 20 في المئة تقريباً في 1990، وفقاً لـ(مكغوان).
وقالت «مع ارتفاع نسبة هؤلاء العمال غير المنتظمين، يظل متوسط الأجور منخفضاً أيضاً بالطبع، لأنهم يتقاضون أجوراً أقل».
وظائف اليابان «مدى الحياة»؟
ثقافة العمل الفريدة في اليابان تسهم هي الأخرى في ركود الأجور، وفقًا لخبراء اقتصاديين.
يقول (أنغريك) إن الكثيرين يعملون في نظام «التوظيف مدى الحياة» التقليدي، حيث تبذل الشركات جهوداً استثنائية لإبقاء العمال على كشوف الرواتب مدى الحياة.
يعني هذا أنهم غالباً ما يكونون حذرين للغاية بشأن رفع الأجور في أوقات الرخاء حتى يكون لديهم ما يكفي لحماية عمالهم في أوقات الشدة.
يضيف (أنغريك) «لا يريدون تسريح الموظفين. لذا فهم بحاجة إلى هذا الهامش ليتمكنوا من الاحتفاظ بهم على كشوف الرواتب عند حدوث أزمة».
وبحسب (مكغوان)، فإن نظام الأجور القائم على الأقدمية، حيث يتقاضى العمال رواتبهم على أساس تراتبي ووفقا لمدة خدمتهم وليس على أساس الأداء، يقلص من حافز تغيير الوظيفة، وهو ما يساعد بشكل عام في البلدان الأخرى على رفع الأجور.
وقال (جيسبر كول)، الخبير البارز والمستثمر في اليابان، لشبكة (CNN) «أكبر مشكلة في سوق العمل في اليابان هي الإصرار العنيد على أن يكون الراتب حسب الأقدمية.. إذا أصبح التقديم على أساس الجدارة الحقيقية، فسيكون هناك الكثير من تبديل الوظائف والارتقاء الوظيفي».
ضغوط على الشركات
في الشهر الماضي، حذر رئيس الوزراء (كيشيدا) من أخطار تحيق بالاقتصاد، قائلاً إن اليابان قد تقع في ركود تضخمي إذا ظلت زيادات الأجور دون معدلات الزيادة في الأسعار. يشير مصطلح الركود التضخمي إلى فترة من ارتفاع التضخم المصحوب بركود في النمو الاقتصادي.
زيادة الأجور بنسبة ثلاثة في المئة أو أكثر سنوياً كانت بالفعل هدفاً أساسياً لحكومة (كيشيدا). لكن الآن، يريد رئيس الوزراء أن يخطو خطوة أخرى إلى الأمام، بخطط لإقامة منظومة مقننة.
وردا على سؤال عن التفاصيل، قال متحدث باسم الحكومة لـ(CNN) «التدابير الاقتصادية الشاملة الجديدة ستتضمن دعماً موسعاً لزيادة الأجور، وبشكل متكامل مع تحسين الإنتاجية».
وقال ممثل عن وزارة العمل إن السلطات تخطط لإعلان مبادئ توجيهية للشركات بحلول يونيو حزيران.
في غضون ذلك، يطالب أكبر اتحاد عمال في البلاد، اتحاد النقابات اليابانية (رينغو)، بزيادات في الأجور بنسبة خمسة في المئة في محادثات هذا العام مع إدارات العديد من الشركات. تنطلق المفاوضات السنوية هذا الشهر.
وقال (رينغو) في بيان إنه يضغط لأن العمال يتقاضون «أجوراً متدنية على نطاق عام» ويحتاجون إلى المساعدة في مواجهة ارتفاع الأسعار.
بعض الشركات تحرك بالفعل. فقد أعلنت (فاست ريتيلينغ)، الشركة صاحبة متاجر (يونيكلو) و(ثيوري)، الشهر الماضي أنها ستزيد الرواتب في اليابان بنسبة تصل إلى 40 في المئة، مقرةً بأن الأجور «ظلت منخفضة» في البلاد خلال السنوات الأخيرة.
وفي حين كان للتضخم دوره، فقد أرادت الشركة أن تجاري «المعايير العالمية، لتكون قادرة على زيادة قدرتنا التنافسية» حسبما قاله متحدث باسم (فاست ريتيلينغ) لـ(CNN)
ووفقاً لاستطلاع أجرته رويترز الشهر الماضي، فإن أكثر من نصف الشركات الكبرى في البلاد تخطط لزيادة الأجور هذا العام.
وقد تكون شركة (صنتوري)، أحد أكبر صانعي المشروبات في اليابان، واحدة منهم.
فالرئيس التنفيذي (تاكيشي نينامي) يدرس زيادة بنسبة ستة في المئة للعاملين اليابانيين البالغ عددهم حوالي سبعة آلاف شخص، حسبما قاله متحدث باسم الشركة، مضيفا أن الفكرة ستخضع للتفاوض مع اتحاد العمال.
وقد تدفع تلك الأخبار شركات أخرى لتحذو حذوها.
يقول (ياماغوتشي)، أستاذ الاقتصاد بجامعة طوكيو «إذا رفعت بعض أكبر الشركات في اليابان الأجور، فإن العديد من الشركات الأخرى ستحذو حذوها»، لكي تظل قادرة على المنافسة. وأضاف «شركات عديدة تنظر إلى ما تفعله الشركات الأخرى».
(ميشيل توه وإميكو جوزوكا – CNN)