استيقظت كوريا الجنوبية بعد انتهاء الحرب الكورية عام 1953، لتجد نفسها واحدة من أفقر دول جنوب شرق آسيا التي مزقتها الصراعات، لكنها رفضت الاستسلام للواقع والآن تسرد لنا قصة نجاح فريدة تستحق أن يُطلق عليها «معجزة نهر هان».

شهدت كوريا الجنوبية واحدة من أكبر الطفرات الاقتصادية منذ ستينيات القرن الماضي لتتحول إلى واحدة من أكبر 15 اقتصاداً في العالم في وقتنا الراهن، وتصبح وجهة جذب رئيسية للمستثمرين الأجانب، فكيف استطاعت كوريا الجنوبية الانتقال من اقتصاد نامٍ إلى متقدمٍ في السنوات الستين الماضية؟

رحلة صعود كوريا الجنوبية

كانت كوريا الجنوبية تحت الاحتلال الياباني في الفترة من عام 1910 حتى عام 1945، لذلك لم تستطع تحقيق نمو اقتصادي ملحوظ، ولكن استطاعت الاستقلال عقب الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان، لتدخل البلاد في حرب كورية استمرت في الفترة من (1950-1953)، وبالطبع أدّت هذه الاضطرابات إلى انهيار اقتصادي شامل.

وبدأت نهضة كوريا الجنوبية منذ أن أصبح بارك تشونغ رئيساً للبلاد في انتخابات عام 1963، وذلك في أعقاب تأسيس الجمهورية الثانية لكوريا الجنوبية بعد انهيار الجمهورية الأولى وانقسام شبه الجزيرة الكورية إلى جزأين شمالي وجنوبي.

ويشير مصطلح «معجزة نهر هان» إلى فترة النمو الاقتصادي السريع في عهد بارك، والتي اتسمت بتوسع في القطاع التصنيعي، وأعقبها تحقيق نمو اقتصادي مرتفع خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.

ونما الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية بنحو 766 في المئة أو بأكثر من سبعة أمثال ونصف خلال 40 عاماً، ليقفز من 203.7 مليار دولار عام 1983، إلى 1.76 تريليون دولار المسجلة عام 2023، وفقاً لبيانات أوكسفورد إيكونوميكس.

اقتصاد كوريا الجنوبية

سر نجاح التجربة الكورية

تعزو العديد من الدراسات التحول الهيكلي في كوريا الجنوبية إلى الإصلاحات السياسية التي تهدف إلى فتح البلاد أمام الأسواق العالمية، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية والاستيراد من الدول المجاورة، بحسب دراسة صادرة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي بسانت لويس.

وقالت الدراسة «تعد السياسات الموجهة نحو التصدير التي تنتهجها كوريا الجنوبية واحدة من أهم عوامل نجاحها، لذلك أصبحت الآن واحدة من أكبر 10 مصدرين في العالم، إذ زادت صادراتها كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 25.9 في المئة عام 1995 إلى 56.3 في المئة عام 2012»، قبل أن تهبط إلى 43.34 في المئة في الربع الأول من عام 2024.

وهناك عاملان إضافيان أسهما في زيادة التجارة الدولية والتصنيع في كوريا الجنوبية، وهما تحسن بيئة الأعمال، وسياسات تحفيز الاستثمار في مجالات الابتكار والتكنولوجيا التي دعمتها الحكومة الكورية على مدار عقود.

ووفقاً للبنك الدولي، تحتل كوريا الجنوبية المرتبة الرابعة في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال لعام 2018، بينما تحتل الولايات المتحدة المرتبة السادسة، ما يشير إلى أنها استطاعت خلق بيئة عمل قوية تجذب المستثمرين الأجانب من جميع أنحاء العالم.

كذلك كرّست كوريا الجنوبية اهتماماً إضافياً لتطوير التكنولوجيا والابتكار لتعزيز النمو، وبحسب الدراسة، تنفق البلاد الآن الحصة الأكبر من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، وهي حصة أكبر حتى من الولايات المتحدة واليابان، وهما من الدول الرائدة على مستوى العالم في مجال الإبداع على أساس كثافة البحث والتطوير.

على سبيل المثال، بين عامي 1996 و2015، نمت كثافة البحث والتطوير في كوريا الجنوبية بنسبة 88.5 في المئة، في حين نمت كثافة البحث والتطوير في الولايات المتحدة بنسبة 14.4 في المئة فقط.

الأزمة الآسيوية

كانت الأزمة المالية بالأسواق الآسيوية عام 1997 اختباراً لقدرة كوريا الجنوبية على الصمود، إذ أدّت حالات الإفلاس المتتالية للعديد من التكتلات الصناعية الكورية الكبرى، فضلاً عن تقلبات أسعار صرف العملات الأجنبية في تايلاند وغيرها من بلدان شرق آسيا، إلى إضعاف ثقة المستثمرين في كوريا.

ونتيجة لذلك، رفضت البنوك الأجنبية تمديد خطوط الائتمان للمؤسسات المالية الكورية، وانسحب المستثمرون الأجانب من كوريا بشكل جماعي، وبحلول منتصف ديسمبر كانون الأول 1997، كانت احتياطيات كوريا من النقد الأجنبي قد استنفدت تقريباً، بحسب صندوق النقد الدولي.

ولم يكن أمام كوريا، مثلها كمثل عدد من البلدان الأخرى الضعيفة اقتصادياً التي ضربتها الأزمة، خيار سوى طلب حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، ما أدّى إلى انكماش حاد في النشاط الاقتصادي في عام 1998، أي نمو سلبي بنسبة 6.7 في المئة، وهو الأسوأ في تاريخ كوريا الحديث.

واعتبر العديد من الكوريين أزمة عام 1997 هي الأزمة الوطنية الأكثر خطورة منذ الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات، وأسوأ وصمة عار وطنية منذ الاستعمار الياباني عام 1910.

لكن في 23 أغسطس آب 2001، تعافت كوريا من الأزمة وسددت كامل حزمة الإنقاذ لصندوق النقد الدولي، لتثبت قدرتها على الوقوف مرة أخرى، وبحلول عام 2002، حظي التقدم الذي أحرزته البلاد باعتراف متزايد من قبل المجتمع الدولي، ورفعت وكالات التصنيف الائتماني تصنيفات الديون السيادية لكوريا من جديد.

مخاطر وتحديات

على الرغم من نجاح كوريا الجنوبية في تخطي العديد من الأزمات من خلال تعزيز الصادرات، وبيئة الأعمال والابتكار، فإن التحديات لا تزال قائمة، بما في ذلك العديد من التحديات المقبلة من الصين، والمخاطر الديموغرافية.

وتوقعت بيانات نشرتها هيئة الإحصاء في كوريا الجنوبية، أن تبلغ البلاد مرحلة «مجتمع الشيخوخة الفائقة» بحلول 2025، مع تسارع الشيخوخة وارتفاع أعداد المواطنين من الفئة العمرية التي تتجاوز 65 عاماً، تزامناً مع نقص أعداد الأطفال.

ونظراً للحجم الجغرافي المحدود نسبياً لكوريا الجنوبية، ومواردها الطبيعية وحجم سكانها، فإن الشيخوخة السكانية قد تؤدي إلى تفاقم التهديد المتمثل في احتمال تخلف اقتصاد كوريا الجنوبية عن نظيراتها من البلدان المتقدمة.

علاوة على ذلك، تركز الحكومة الصينية على الاكتفاء الذاتي من المنتجات والسلع التي تتطلب مهارات وتكنولوجيا عالية، فقد يكون لهذا تأثير سلبي على كوريا الجنوبية، إذ إنه كانت الصين مستورداً كبيراً للسلع الكورية الجنوبية، فضلاً عن المنافسة في مجال الابتكار، إذ اقتربت كثافة البحث والتطوير في الصين من مستويات الولايات المتحدة واليابان.

وللحفاظ على النمو الاقتصادي المستدام، اقترحت دراسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس، أن تركّز كوريا الجنوبية على الدعم المحلي في مجال الابتكار وتعزيز بيئة الأعمال المواتية، والاستمرار في إقامة الشراكات الاستراتيجية والاقتصادية مع بقية دول العالم.