تتنافس الدول عموماً للفوز بفرصة تنظيم البطولات الرياضية العالمية، وفي حين يأمل كثيرون في عوائد اقتصادية تغطي التكلفة الباهظة، فإن الأدلة التاريخية أثبتت أن تحقيق التربح ممكن فقط عبر ضبط ميزانية الإنفاق على البُنية التحتية والاستعدادات في تلك الدول لاستضافة البطولة الرياضية.
وتستضيف العاصمة الفرنسية باريس دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية لهذا العام في فعالية رياضية يتابعها الملايين اليوم حول العالم، هذه الاستعدادات بدأت بوتيرة تدريجية قبل سبع سنوات عندما علمت فرنسا أنه وقع الاختيار عليها لاستضافة الأولمبياد الصيفية لعام 2024.
كانت العاصمة الفرنسية قدّمت ترشيحها رسمياً في 23 يونيو حزيران 2015، لتتنافس مع مدن هامبورغ وروما وبودابست ولوس أنجلوس، إلا أن هذه المدن انسحبت بعد ذلك ولم يتبقَ في المنافسة سوى لوس أنجلوس.
وفي حين اتفقت الأخيرة على استضافة ألعاب 2028، باتت باريس بموجب الأمر الواقع هي المستضيف لأولمبياد 2024.
أرخص دورة ألعاب صيفية منذ عقود
ويتم اختيار الدول المستضيفة للبطولات العالمية في إطار تنافسي، إذ إنه، نظرياً، تسعى الدول للفوز بما يجلبه تنظيم البطولات من خيرات ومنافع اقتصادية على أصعدة وقطاعات مختلفة.
وفي حين خصصت باريس نحو 8 مليارات دولار لأولمبياد 2024 زادت المدينة ميزانيتها بعدة مليارات من الدولارات، وقد تتجاوز تكلفة استضافة باريس للألعاب الأولمبية 10 مليارات يورو.
تنقسم التكاليف بالتساوي نسبياً بين نفقات التشغيل والبنية التحتية الجديدة، وفق تقديرات وكالة «ستاندر آند بورز» غلوبال للتصنيف الائتماني.
وأنفقت باريس 4.5 مليار دولار على البُنية التحتية، بما في ذلك 1.6 مليار دولار لقرية الألعاب الأولمبية، التي يزيد سعرها بنحو الثلث -على الأقل- مقارنة بميزانيتها الأصلية.
وإذا ظلت التكلفة النهائية عند هذا المستوى، فستستضيف باريس أرخص دورة ألعاب صيفية منذ عقود.
وفي وقت سابق، توقع تقرير نشره موقع منتدى الاقتصاد العالمي أنه من المرجح أن يتعزز الاقتصاد الفرنسي، من خلال مبيعات التذاكر والسياحة.
وتوقع المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي أن تزيد الألعاب الأوليمبية في باريس من النمو في الربع الثالث إلى 0.5 في المئة ارتفاعاً من 0.3 في المئة في الربع الثاني، بحسب ما أوردته وكالة رويترز للأنباء.
وتوقعت اللجنة الأوليمبية الدولية في وقت سابق زيادة قدرها 12.2 مليار دولار لمنطقة إيل دو فرانس حول باريس من جراء استضافة الألعاب الأوليمبية والألعاب البارالمبية.
خفض تكاليف الأولمبياد
ويقول المنظمون إن القرار بالاعتماد بالكامل تقريباً على الأماكن القائمة، مثل تلك التي تم بناؤها لبطولة فرنسا المفتوحة السنوية وبطولة أوروبا لكرة القدم 2016، أدى إلى خفض التكاليف.
كما سيتم توزيع الألعاب على الملاعب في مدن فرنسية أخرى، بما في ذلك ليون ومرسيليا ونيس.
يُذكر أن دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية لعام 1976 في مونتريال بكندا صارت رمزاً للمخاطر المالية المترتبة على الاستضافة، إذ كانت التكلفة المتوقعة البالغة 124 مليون دولار أقل بمليارات الدولارات من التكلفة الفعلية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تأخير البناء وتجاوز التكاليف لملعب جديد، ما أدى إلى تحميل دافعي الضرائب في المدينة ديوناً تبلغ نحو 1.5 مليار دولار استغرق سدادها ما يقرب من ثلاثة عقود.
واستغرق الأمر حتى عام 2006 حتى تتمكن مونتريال من سداد آخر ديونها من دورة الألعاب الأوليمبية عام 1976.
اقتصادات الأولمبياد
وقالت دراسة نشرها مجلس العلاقات الخارجية إن دورات الألعاب الأخيرة قد سلّطت الضوء على النقاش الدائر حول تكاليف وفوائد استضافة مثل هذه الفعاليات الضخمة، فقد استهلكت دورة الألعاب الأولمبية في طوكيو 2020 نفقات زائدة، وقد ارتفعت أكثر من المتوقع بعد تأخير غير مسبوق بسبب تفشي وباء كوفيد.
والآن قد تواجه باريس المضيفة الصيفية أيضاً فاتورة بمليارات الدولارات، ومع استمرار المضيفين السابقين الآخرين في النضال من أجل سداد الديون التي تكبدوها، انسحبت بعض المدن المرشحة للألعاب المستقبلية من عروضها أو قلصت خططها.
وعلى مدى أغلب القرن العشرين، كان تنظيم الألعاب الأوليمبية يشكل عبئاً يمكن تحمله بالنسبة للمدن المضيفة؛ فقد أقيمت الأحداث في بلدان غنية، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، وفي عصر ما قبل البث التلفزيوني، لم يكن المضيفون يتوقعون تحقيق ربح… وبدلاً من ذلك، كانت الألعاب ممولة من القطاع العام، وكانت هذه البلدان في وضع أفضل لتحمل التكاليف بسبب اقتصاداتها الأكبر وبُنيتها الأساسية الأكثر تقدماً.
لكن بحسب الخبير الاقتصادي أندرو زيمباليست، مؤلف ثلاثة كتب عن اقتصادات الألعاب الأوليمبية، فإن سبعينيات القرن العشرين كانت نقطة تحول، إذ بدأت الشكوك بين مواطني الدول تزيد بشأن تكلفة استضافة هذه البطولات.
وفي عام 1972، أصبحت دنفر، أول مدينة مختارة للاستضافة، ترفض هذه الفرصة، وذلك بعد أن أقر الناخبون استفتاءً يرفض الإنفاق العام الإضافي للألعاب.
وقد قدرت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2024 أنه منذ عام 1960، كانت التكلفة المتوسطة للاستضافة ثلاثة أمثال سعر العرض المقدم في طلبات ترشيح مدن.
وأصبحت دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية لعام 1976 في مونتريال رمزاً للمخاطر المالية المترتبة على الاستضافة، وكانت التكلفة المتوقعة البالغة 124 مليون دولار أقل بمليارات الدولارات من التكلفة الفعلية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تأخير البناء وتجاوز التكاليف لملعب جديد، ما أدى إلى تحميل دافعي الضرائب في المدينة ديوناً تبلغ نحو 1.5 مليار دولار استغرق سدادها ما يقرب من ثلاثة عقود، واستغرق الأمر حتى عام 2006 حتى تتمكن مونتريال من سداد آخر ديونها من دورة الألعاب الأوليمبية عام 1976.
تأثير الألعاب الأوليمبية على السياحة
وجد خبراء الاقتصاد أن تأثير الألعاب الأوليمبية على السياحة مختلط، إذ تعمل عوامل الأمن والازدحام وارتفاع الأسعار التي تجلبها الألعاب الأوليمبية على ثني العديد من الزوار عن المشاركة.
وتُذكَر برشلونة، التي استضافت الألعاب الأوليمبية في عام 1992، باعتبارها قصة نجاح في مجال السياحة، حيث ارتفعت من المركز الحادي عشر إلى المركز السادس بين أكثر الوجهات شعبية في أوروبا بعد الألعاب الصيفية التي أقيمت هناك، كما شهدت سيدني وفانكوفر زيادة طفيفة في عدد السياح بعد استضافتهما الألعاب الأوليمبية، ولكن بادي وماثيسون وجدا أن بكين ولندن وسولت ليك سيتي شهدت جميعها انخفاضاً في السياحة خلال السنوات التي استضافت فيها الألعاب.
وفي البرازيل، أول دولة في أميركا الجنوبية تستضيف الألعاب الأوليمبية، تجاوزت تكلفة ألعاب 2016 عشرين مليار دولار، إذ تحملت مدينة ريو وحدها ما لا يقل عن ثلاثة عشر مليار دولار، وفي مواجهة التحديات التي فرضها الركود العميق في البلاد احتاجت ريو إلى خطة إنقاذ بقيمة 900 مليون دولار من الحكومة الفيدرالية لتغطية تكاليف مراقبة الألعاب الأوليمبية، وكانت غير قادرة على دفع رواتب جميع موظفيها العموميين.
كما اضطرت المدينة إلى الاستثمار بكثافة في مجموعة واسعة من البنية الأساسية، والتي كانت تهدف إلى تنشيط بعض أحيائها المتعثرة، ولكن في أعقاب ذلك تم التخلي عن معظم الأماكن أو بالكاد استخدامها.
واختتمت دراسة مجلس العلاقات الخارجية بالتأكيد على أن هناك القليل من الأدلة على التأثير الاقتصادي الإيجابي الإجمالي.