قبل عشرة أيام فقط، كانت الأسواق المتوترة تشعر بالذعر إزاء الاقتصاد الأميركي، مقتنعة بأن الركود الذي تجنبناه لمدة ثلاثة أعوام قد بدأ يحدث أخيراً، ويبدو أن هذا كان رد فعل مبالغاً فيه إزاء تقرير واحد عن سوق العمل.
الواقع أن الارتفاع الحاد غير المتوقع في معدلات البطالة قبل أسبوعين كان بمثابة راية حمراء عملاقة، لكن سوق العمل لم تسقط من شجرة جوز الهند، كما تقول نائبة الرئيس كامالا هاريس، (بل إنها موجودة في سياق كل ما نعيش فيه وكل ما جاء قبلها).
الحقيقة أن الاقتصاد في حالة جيدة إلى حد كبير، ولا يتحدث أي خبراء اقتصاديين جادين عن ركود وشيك، والحقيقة أيضاً أن الناس يشعرون بالضيق، وأن الإسكان أصبح باهظ التكلفة بالنسبة لملايين الأميركيين، وأن الأسعار لن تنخفض حتى مع تباطؤ التضخم.
في الفترة التي تسبق الانتخابات، سوف ينتهز الساسة أي سرد اقتصادي يضع أجندتهم في ضوء أكثر إيجابية، إحدى الطرق للقيام بذلك هي التركيز على موضوع واحد -أسعار السوبر ماركت على سبيل المثال- والابتعاد عن أي تناقضات أو تحذيرات من شأنها أن تشوش الرسالة.
مبيعات التجزئة
إن قصة المستهلك الأميركي في هذه المرحلة بطولية بكل المقاييس، فعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات، كنا نتسوق في ظل كل أنواع الأزمات، هل نشتري الأشياء في ظل الإغلاقات بسبب الوباء؟ هل نرفع الإغلاقات؟ هل نشتري الأشياء؟ هل نشهد حروباً في الخارج؟ هل نشهد اضطرابات اجتماعية؟ هل نشهد حرائق غابات؟ هل نشهد فيضانات؟ هل نتسوق؟
ووفقاً للبيانات الصادرة يوم الخميس، ارتفعت مبيعات التجزئة في الولايات المتحدة بنسبة مذهلة بلغت 1% من يونيو حزيران إلى يوليو تموز، وكان خبراء الاقتصاد يتوقعون زيادة قدرها 0.3%.
والآن، دعونا نلقِ نظرة على السياق؛ تُظهِر أرباح الشركات أن المستهلكين لم يستنفدوا طاقاتهم، لكنهم يركزون بشكل متزايد على إيجاد صفقة جيدة، وتتعرض العلامات التجارية الفاخرة لضغوط شديدة، في حين تزدهر متاجر وول مارت وكوستكو، وتشير المبيعات الضعيفة في هوم ديبوت أيضاً إلى أن أصحاب المنازل يؤجلون المشاريع الكبرى، وهو ما يعكس بعض عدم اليقين بشأن التمويل الشخصي.
خلاصة القول «يواصل المستهلكون الإنفاق بمعدل ثابت، حتى لو كانوا أكثر وعياً بالميزانية ويبحثون عن المزيد من الصفقات»، حسب ما قالت كاثي بوستجانسيك، كبيرة الاقتصاديين في شركة نيشن وايد، في بيان لها يوم الخميس.
نمو الوظائف
وهناك نقطة أخرى مشرقة (في الأغلب) يمكن للديمقراطيين الاعتماد عليها في حملتهم الانتخابية، وهي سوق العمل.
حتى مع ظهور بعض الشقوق مؤخراً، فإن حالة التوظيف أفضل بكثير الآن مما كانت عليه عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه، فقد ارتفعت معدلات البطالة في عام 2020 وظلت مرتفعة عند 6.3% في يناير كانون الثاني 2021، وفي معظم فترة ولايته، كانت أقل من 4%، عند أدنى مستوياتها منذ نصف قرن أو نحو ذلك، وعند 4.3% الآن، تظل البطالة منخفضة تاريخياً.
ولكن انتظر، هناك سياق، فقد تباطأت وتيرة خلق فرص العمل في مواجهة أسعار الفائدة المرتفعة، الأمر الذي يجعل من الصعب على الشركات التوسع، وقد عاد المزيد من الناس إلى سوق العمل مؤخراً، وهو أمر جيد، لكنه أيضاً يدفع بقراءة البطالة الشهرية إلى الارتفاع.
بعد الارتفاع المفاجئ والحاد في معدلات البطالة في شهر يوليو تموز، أصبحت قصة سوق العمل أكثر تعقيداً بالنسبة لفريق هاريس.
ليس هناك الكثير مما يمكنك فعله لتجميل الأمر، سوق الإسكان سيئة للغاية في الوقت الحالي، سواء كنت تستأجر أو تمتلك.
تُعَد تكاليف المأوى المحرك الأساسي للتضخم الذي عانت منه أميركا على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، فقد بلغ متوسط سعر المساكن المملوكة سابقاً 427 ألف دولار، وهو أعلى مستوى على الإطلاق، ويمثل زيادة بنسبة تزيد على 20% على مستواه قبل ثلاث سنوات، وفقاً لبيانات من الرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين.
الأسباب معقدة، وليست خطأ أي حزب سياسي واحد، على الرغم من أن هذا لم يمنع أي طرف من محاولة تحميل الطرف الآخر المسؤولية.
باختصار، كان المعروض من المساكن محدوداً بالفعل عندما ضرب الوباء، ما أدى إلى زيادة الطلب، وبطبيعة الحال، ارتفاع الأسعار، ثم ساعدت حملة مكافحة التضخم التي شنها بنك الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة في دفع أسعار الرهن العقاري إلى الارتفاع، من أقل من 3% في عام 2020 إلى ذروة بلغت 7.2% هذا العام.
هناك أخبار جيدة وأخرى سيئة؛ أسعار الرهن العقاري آخذة في الانخفاض (كان المتوسط 6.5% هذا الأسبوع)، والعرض آخذ في الارتفاع، وهو ما من شأنه أن يخفف من حدة ارتفاع الأسعار، ومع التغييرات الكبرى التي ستطرأ على طريقة التعامل مع عمولات وكلاء العقارات (بفضل التسوية مع وكالات إنفاذ قانون مكافحة الاحتكار العدوانية بشكل خاص التي يرأسها بايدن)، سيكون للمشترين رأي أكبر قليلاً في ما يدفعونه لسماسرة العقارات.
الخبر السيئ هو أن الأمور لن تصبح أسهل بين عشية وضحاها، ففي يونيو حزيران، حذر خبراء الاقتصاد في بنك أوف أميركا من أن سوق الإسكان في الولايات المتحدة «راكدة» وقد لا تتحرر من هذا المأزق قبل عام 2026 على أقرب تقدير.
وقال مايكل جابن، رئيس قسم الاقتصاد الأميركي في بنك أوف أميركا، لشبكة سي إن إن «سوف يستغرق الأمر سنوات عديدة حتى يتم حل هذه المشكلة، ولا يوجد حل سحري، والرسالة الموجهة إلى مشتري المنازل لأول مرة هي الصبر والإحباط».
التضخم مقابل الأسعار
لقد استغرق الأمر ثلاث سنوات، ولكن معركة التضخم انتهت إلى حد كبير، ومن المدهش أن بنك الاحتياطي الفيدرالي المستقل (وغير الحزبي) نجح في إلحاق القدر المناسب من الألم بالشركات والمستهلكين لإبطاء الاقتصاد دون دفعه إلى الهاوية.
لكن الأسعار والتضخم ليسا الشيء نفسه.
يشير التضخم إلى السرعة التي تتحرك بها الأسعار، ويستهدف بنك الاحتياطي الفيدرالي معدلاً يبلغ نحو 2% لأنه بالكاد يمكن إدراكه، وإذا تحول غداؤك الذي يكلف 10 دولارات إلى 10.20 دولار على مدار العام، فهذا هو حال العالم.
يتسوق الناس في سوبر ماركت في حي مانهاتن بمدينة نيويورك في 27 يناير 2024.
لكن قبل عامين، عندما كان الاقتصاد يتعافى من التباطؤ الناجم عن جائحة كوفيد-19، كانت الأسعار ترتفع على نطاق واسع بمعدل 9%، وشعرنا جميعاً بالصدمة.
الأسعار لم ترتفع بالسرعة نفسها التي كانت عليها، ولكنها لم تنخفض أيضاً.
منذ بدء الوباء، ارتفعت أسعار البقالة -وهو ما يشكل مصدر قلق حاد بين الناخبين بشكل خاص- بنسبة 20%، المشكلة هي أننا جميعاً نتذكر كيف كانت فاتورة البقالة التي تبلغ 200 دولار مؤخراً أقرب إلى 160 دولاراً.
إن الطلب هو أحد العوامل التي تسهم في ارتفاع الأسعار، كما أن الشركات التي تسعى إلى زيادة هوامش أرباحها تشكل عاملاً آخر، وقد أشارت حملة هاريس إلى خطتها لمحاولة وقف ما يسمى برفع الأسعار.
ولكي نكون واضحين، برغم أن انخفاض الأسعار يبدو جذاباً، فإننا بكل تأكيد لا نريد أن يدخل الانكماش، وهو الشقيق الشرير للتضخم، في هذه المجموعة، والواقع أن النتيجة الأفضل بدأت تتحقق بالفعل، إذ إن نمو الأجور يفوق معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية.