تمثّل الأزمات السياسية في فرنسا وألمانيا انتكاسة جديدة للجهود الرامية إلى تحديث الاقتصاد الأوروبي المتعثر، وتجعل من الصعب على الشركات اتخاذ القرارات الاستثمارية التي تحتاج إليها للتنافس على المستوى العالمي.
إن انهيار حكومتي ألمانيا وفرنسا، الاقتصادان الكبيران اللذان كانا المحرك الرئيسي للاتحاد الأوروبي لعقود من الزمان، يأتي في الوقت الذي يتعين فيه على المنطقة أن تبحر في مواجهة عدة مخاطر أهمها عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتصاعد التوترات التجارية مع الصين.
قال إنريكو ليتا، مُعد تقرير من 147 صفحة بتكليف من الاتحاد الأوروبي هذا العام حول نقاط الضعف في اقتصاد المنطقة، لرويترز «يجب ألّا تؤدي الأزمة الفرنسية، إلى جانب الأزمة الألمانية، إلى إبطاء تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية»، وحذّر من أن سقوط الحكومة الفرنسية بعد أسابيع فقط من انهيار الائتلاف الألماني هو «نيزك محتمل» للاستقرار المالي في منطقة تكافح مع ارتفاع الديون.
في حين أن معظم الأوروبيين يتفوقون على أقرانهم في الولايات المتحدة من حيث جودة حياتهم وشبكات الأمان الاجتماعي، إلّا أن القارة العجوز قد تخلفت عن الولايات المتحدة من حيث حصة الفرد من النمو الاقتصادي منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وتم إلقاء اللوم على كل شيء من القطاع المصرفي إلى ضعف الإنتاجية إلى أسواق رأس المال المجزأة إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي حرمت الشركات الأوروبية من مصدر طاقة رخيص، ولكن لم يتم توجيه الاتهامات للسياسات الحكومية.
ومع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة واليسارية المتشددة أصبح من الصعب التوصل إلى إجماع في البرلمانات الوطنية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، لذا فإن الاحتمالات ضئيلة لعلاج أزمات أوروبا طويلة الأجل.
التأجيل سم قاتل
قال أكسل بيتروزيلي، رئيس مجلس العمال في مصنع شركة بوش لتوريد قطع غيار السيارات في شتوتجارت، إن حالة عدم اليقين الناجمة عن انهيار الحكومة الائتلافية الألمانية بمثابة «سم قاتل»، حيث تحتاج شركته إلى وضوح عاجل بشأن السياسة الصناعية الألمانية تجاه قطاع السيارات الكهربائية، لكن هذا لن يأتي إلّا بعد انتخابات فبراير.
وتواجه شركة الطيران الوطنية لوفتهانزا تجاهلاً من ساسة برلين بعد طلبها خفض رسوم المطارات، والتي هي أعلى بكثير من أي مكان آخر في أوروبا، وقال أحد المسؤولين التنفيذيين إن الشركة قد تنقل العمليات بعيداً إلى مراكز أقل تكلفة مثل روما.
وقالت شركة سافران الفرنسية لصناعة محركات الطائرات، الأسبوع الماضي، إن مدى الاستقرار السياسي هو أحد المحددات الرئيسية لقرار الشركة، الذي ستتخذه في أوائل العام المقبل، بشأن موقع مصنع جديد لمكابح الكربون، مع إدراج الولايات المتحدة وكندا في القائمة المختصرة للموقع الجديد إلى جانب فرنسا.
ومع توقع نمو اقتصاد أوروبا بنسبة واحد في المئة هذا العام، يتم وضع الكثير من الأمل على إنفاق المستهلك الذي يقود التعافي العام المقبل مع زيادة الأجور التي تعزز دخول الأسر، لكن هذا يفترض أن المتسوقين لن يبدؤوا بالشعور بالتوتر أو الخوف من المستقبل في ظل غياب القيادة الاقتصادية والسياسية الموثوقة.
وقال مارك مورتوريو، الرئيس التنفيذي لمجموعة الضغط الفرنسية للسيارات «منصة السيارات»، إن هذا المناخ السياسي لا يشجّع الاستهلاك بشكل عام، خاصةً المشتريات المُعمرة مثل السيارات.
تحديات تجارية
قالت جمعية الكونياك الفرنسية إن فرض الصين في أكتوبر رسوم مكافحة إغراق على واردات البراندي الأوروبية، بعد أيام من إعلان الاتحاد الأوروبي فرض رسوم جمركية حمائية على واردات السيارات الكهربائية الصينية، كان كارثياً للقطاع.
وفي إشارة إلى وعد ماكرون بحل النزاع مع الصين، قالت الجمعية، «إن تصويت حجب الثقة لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يمنع هذه الخطوات الضرورية التي تعتمد عليها حياة العديد من الفرنسيين».
في الوقت نفسه ينبغي أن يكون تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة على الأقل على جميع الواردات الأميركية هو اختبار لتضامن أبناء أوروبا سواء في تحديد الإجراءات الاستباقية لهذه التهديدات، أو كيفية الرد إذا مضى ترامب قدماً فيها.
ولكن كل التناقضات المتأصلة في السياسة التجارية الأوروبية، مع سعي كل دولة على حدة إلى حماية القطاعات الأكثر أهمية لاقتصادها المحلي، كانت حاضرة بقوة هذا الأسبوع عندما وقع الاتحاد الأوروبي بالأحرف الأولى على اتفاقية تجارية مع البرازيل والأرجنتين وأوروغواي وباراغواي وبوليفيا.
إن هذه الصفقة التي أشاد بها الاتحاد الأوروبي باعتبارها أكبر صفقة تجارية على الإطلاق، من شأنها أن تضع مصلحة ألمانيا في فتح أسواق جديدة لسياراتها وآلاتها في مواجهة مصلحة فرنسا في الدفاع عن قطاعها الزراعي من الواردات اللاتينية، وفي الوقت الحالي، ومع التقلبات السياسية في باريس وبرلين، فإن مصير الاتفاقية النهائي أصبح أكثر غموضاً، وعلى حد تعبير أحد المصادر الدبلوماسية الفرنسية «إنها ليست نهاية القصة».