في صمتٍ ما قبل العاصفة، ينام السوق على أسعارٍ أغلقت في نهاية جلسة الأمس، غير مدرك أن فجراً ما يحمل له صدمة لن تُنسى.
ومع أول خيط ضوء في جلسة التداول التالية، تُفتح الأبواب على مصراعيها، لتقفز الأسعار –أو تهوي– دون سابق إنذار، وكأنها تتفاعل مع زلزال لم تشعر به الأنظمة الآلية، بل رسمته الأخبار العاجلة قبل أن يفتح السوق عينيه.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
هكذا تُولد الفجوات السعرية، لا من عبث، بل من وقع نبأٍ سار يهز الثقة أو يبث الأمل، أو من خبر كارثي يقتلع جذور الأمان من قلوب المستثمرين، إنها قفزات عنيفة، لا تسير وفق الخط المستقيم، بل تسلك طرقاً مختصرة نحو الأعلى أو الأسفل، كما لو أن السوق يحاول اللحاق بواقع تغيّر في غيابه.
في الأسواق المالية، تظهر الفجوات السعرية كأنها طعنات الزمن في جسد الرسم البياني، لا سابقَ إنذارٍ لها سوى خبرٍ تسلل في الليل أو قرارٍ وُلد خلف الأبواب المغلقة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
تلك اللحظات، التي تفتح فيها الشمعة التالية على ارتفاعٍ أو انهيار دون المرور بالماضي، ليست مجرد أرقام تُعرض على الشاشات، بل هي نقاط انعطاف يُصاغ عندها مصير المتداولين؛ بين من يستقبلها بثقة المتمرس، ومن يضيع في دوّامة الندم.
الفجوة السعرية.. حديث السوق بلغة غير مكتوبة
الفجوة السعرية (Price Gap) هي المسافة التي يخطوها السعر في غياب التدرج، هي فاصل زمني قصير بين جلستين، لكنه كافٍ لإعادة تشكيل الخريطة النفسية للسوق، تحدث هذه الفجوة حين يكون سعر الافتتاح أعلى أو أدنى من الإغلاق السابق دون تداول بينهما، لكنها ليست مجرد فراغ؛ إنها صدى لما لم يُقَل، أو لما قيل في الخفاء.
يقول العارفون، من تسميهم العامة بـ«الهوامير»، إن الفجوة ليست مجرد مساحة فارغة على الرسم البياني، بل هي لحظة صدق بين السوق ونبض العالم، هؤلاء الكبار، من يمتلكون أدوات الرصد قبل غيرهم، يعرفون متى تُهدَم المعابد، ومتى تُبنى قصور الثروة على أنقاض الخوف.
فجوةٌ صاعدة قد تأتي مع إعلان نتائج أرباح تفوق التوقعات، أو اكتشاف دواء يعيد الأمل للأسواق المريضة، فتقفز الأسهم عند الافتتاح، ولا تلتفت إلى الوراء، أما الفجوة الهابطة، فهي غالباً ما تأتي متلفعةً بكارثة؛ إفلاس شركة عملاقة، أو اندلاع حرب، أو تشريع مفاجئ يقلب موازين اللعبة، فيُفتَح السوق على هاوية، ويهرول المستثمرون لبيع ما تبقى من أمل.
والمفاجأة الحقيقية، أن هذه الفجوات لا تكتفي بإعادة تشكيل الأسعار، بل تعيد رسم مصائر بأكملها، ففي لحظة واحدة، قد يُفتح باب الأرباح الخرافية لمن استعد جيداً، ويصحو المتداول ليجد حسابه قد تضاعف في ومضة، وكأن الحظ زاره في غفلة من الزمن.
وفي اللحظة ذاتها، قد يُغلق حساب آخر بلا رحمة، وتتبخر الثروة التي بُنيت في سنوات كأنها لم تكن، بضغطة زر لم تجد من يوقفها.
وبين هذا وذاك، يقف المتداول الهاوي مذهولاً، يتأمل الشرخ العنيف الذي تركته الفجوة بين الإغلاق والافتتاح، بينما المحترفون قد حسموا مواقعهم منذ الليلة الماضية، وقرروا إن كانوا سيشترون مع القفزة، أم يبيعون على الذعر.
إنها الفجوات السعرية، دراما السوق الكبرى، التي لا تقرع الأبواب، بل تقتحمها، هي اللغة التي يتحدث بها السوق عندما لا يعود للكلمات وقت، وحين تُختصر المسافات بين الحلم والصدمة بخطٍ واحد على الشاشة.
أنواع الفجوات:
الفجوة الصاعدة (Gap Up):
حين يقفز السوق صباحاً كمن استقبل خبراً مبهجاً، هنا، التفاؤل يسبق الفعل، والمشترون يندفعون كأنهم في سباق مع الزمن.
الفجوة الهابطة (Gap Down):
عكسها تماماً، تُفتتح الجلسة على ذعر، ويُعرض السهم برخص كأن شيئاً جوهرياً انهار، هنا، الصمت بين الإغلاق والافتتاح يكشف كم تكلّم السوق بصمته.
فجوة الاستمرارية (Runaway Gap):
كمن يعدو في طريق مكشوف، لا توقف في المنتصف، الفجوة هنا تأكيد لا لبس فيه أن الاتجاه قائم، وأن الحشود قد وحّدت صفوفها.
فجوة الفشل أو الإجهاد (Exhaustion Gap):
تأتي في آخر المطاف، كصرخة أخيرة قبل الانهيار، يظنها البعض بداية جديدة، لكنها في الحقيقة نهاية مغرية لمن يقرؤها بسطحية.
الفجوة سر مفاجئ
كم من متداول دخل السوق على أمل الربح السريع، فلم ينتبه لفجوة تُحذر من عاصفة قادمة.
وكم من مالٍ طار فجأة، لا لأنه استُثمر في مكان خاطئ، بل لأنه وُضع دون دراية في لحظة خاطئة.
إن العاطفة عدو المتداول الأول، الفجوة السعرية لا ترحم من يتبع الخوف أو الجشع.
والإهمال في التحليل الفني، يجعل المتداولين يدخلون في مسارات لا يملكون فيها خريطة.
والركض خلف الشائعات، كالاعتماد على تغريدة مجهولة أو إشاعة صاعدة من «غرف التداول»، قد يكون طريقاً مختصراً نحو الإفلاس.
أمثلة محفورة في تاريخ الأسواق:
انهيار وول ستريت 1929:
فجوات هابطة متتالية، كتبت بداية الكساد العظيم.
الاثنين الأسود 1987:
فجوة هبوطية تاريخية قضت على 22% من قيمة السوق الأميركي في يوم واحد.
فقاعة الدوت كوم 2000:
شركات كانت تُقاس بوعودها لا أرباحها، وسقطت بفجوات متتالية حين اصطدمت الأحلام بالواقع.
الأزمة المالية 2008:
بنوك كبرى انهارت بين عشية وضحاها، وأسواق فتحت على فجوات لم تغلق إلا بعد شهور من النزيف.
كوفيد-19 (2020):
هلع عالمي فجّر فجوات هبوطية في معظم مؤشرات العالم.
انهيار بنك سيليكون فالي 2023:
فجوة هائلة عقب إعلان الإفلاس، قلبت موازين الثقة في البنوك التكنولوجية.
تغريدة إيلون ماسك 2018:
«أفكر في خصخصة تسلا».. سببت فجوة صاعدة أذهلت الأسواق قبل أن تُحقق هيئة الأوراق المالية في الأمر.
شائعة مرض ستيف جوبز 2008:
أوقفت سهم أبل عن الارتفاع، وهبط بفجوة واسعة نتيجة خبر صحي لم يتم التحقق منه فوراً.
كيف يربح من يفهم الفجوة؟
الهوامير يعلمون أولاً
ليس لأنهم سَحَرة، بل لأنهم الأقرب للمعلومة، والأسرع في ردّ الفعل، والأقدر على استغلال ما قبل الإعلان لا ما بعده.
المحترفون لا يدخلون السوق عند الفجوة، بل قبلها أو بعدها بذكاء، يراقبون الحجم، الاتجاه، وتاريخ السهم، ويقرؤون ما بين الشموع.
وقف الخسارة ليس ضعفاً، بل هو دليل حكمة.
من لا يُدير المخاطر، هو في الحقيقة لا يُدير شيئاً.