يبدو أن استضافة المدن للألعاب الأولمبية والبارالمبية بات إنجازاً غير قابل للاستمرار مالياً، بسبب تجاوزات الميزانية والديون طويلة الأجل وتكلفة تطوير البنية الأساسية ونقل السكان وإعادة إحلالهم بالإضافة إلى الأضرار البيئية.
وتأمل اللجنة الأولمبية الدولية في تصحيح هذا المسار بدءاً من ألعاب باريس، واتباع نهج أكثر رشادة واستدامة مقارنة بالدورات الأولمبية الماضية.
يقول فيكتور ماثيسون، أستاذ الاقتصاد في كلية الصليب المقدس، الذي أجرى أبحاثاً حول التكاليف المالية للألعاب الأولمبية «باريس هي أول دورة أولمبية منذ سيدني تنخفض تكاليفها الإجمالية عن 10 مليارات دولار»، وأضاف «نفتقر الآن إلى المدن الراغبة في استضافة هذا الحدث، بعد أن أصبح من الواضح جداً أن الألعاب الأولمبية كارثة مالية للمدن المُستضيفة، مع أمل ضعيف في استرداد الأموال في المدى البعيد».
متى تحولنا نحو الإسراف؟
قبل أربعين عاماً، كانت الألعاب الأولمبية عند مفترق طرق بعد أن تجاوزت دورة الألعاب الأولمبية في مونتريال عام 1976 التكاليف المخصصة بشكلٍ كبير، وبالتالي تجنبت المدن التقدم لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية عام 1984، كما يوضح أندرو زيمباليست، الخبير الاقتصادي الرياضي في كلية سميث، الذي كتب عن التوترات الاقتصادية للألعاب الأولمبية وكأس العالم في كتابه «سيرك ماكسيموس».
وفازت لوس أنجلوس بشرف تنظيم أولمبياد 1984 بعد أن كانت المدينة الوحيدة التي تقدمت بعرض لاستضافة الدورة، بعد انسحاب طهران، ولم تعانِ المدينة الأميركية كثيراً حيث استخدمت بنيتها التحتية وملاعبها القائمة بالفعل، واستطاعت تحقيق ربح من رعايات الشركات وحقوق البث، وبناء الإطار التسويقي العملاق للألعاب الأولمبية المستمر حتى اليوم.
وبهذا استطاعت اللجنة المنظمة في لوس أنجلوس تحقيق فائض قدره 215 مليون دولار في نهاية المطاف.
كتب زيمباليست في كتابه «أغرت لوس أنجلوس الباقين باتباع نفس المسار لتحقيق الأرباح، فاصطفت المدن والبلدان لنيل شرف استضافة الألعاب، فأصبحت المنافسة على استضافة الألعاب في مثل شدة المنافسة الرياضية نفسها»، حتى أن بعض المدن أنفقت أكثر من 100 مليون دولار على عملية تقديم طلبات الاستضافة وحدها، وبمجرد فوزها بشرف التنظيم ارتفعت التكاليف إلى ما هو أعلى بكثير من الميزانيات المبدئية.
ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة أكسفورد في مايو 2024، تجاوزت تكاليف خمس من الألعاب الأولمبية الست الماضية (الصيفية والشتوية) ضعف التكاليف المبدئية المدرجة في ملف الاستضافة، حتى بعد أن تم حساب أثر التضخم.
واتصلت لجنة تنظيم باريس 2024 بشبكة سي إن إن لدحض ادعاء الباحثين وطعنت في تقديرات دراسة أكسفورد، مشيرة إلى أن ميزانية الألعاب الأولمبية بباريس 2024 تتجاوز ميزانية مرحلة تقديم طلب الاستضافة بنسبة 16 في المئة فقط، وليس 100 في المئة كما تدعي الدراسة.
وكتب الباحثون «لقد تجاوزت جميع الدورات الأولمبية، دون استثناء، التكلفة المقررة، وهذا لا ينطبق على أي نوع آخر من المشاريع الضخمة، ولا حتى بناء محطات الطاقة النووية أو تخزين النفايات النووية».
وأكد الباحثون أنهم متحفظون في هذه التقديرات «لم يتم إدراج التكاليف غير المباشرة، مثل تحسين كفاءة البنية التحتية من طرق وسكك حديدية ومطارات وفنادق وغيرها».
ووفقاً لتقديرات زيمباليست، غير المتحفظة والتي تضم تكاليف التشغيل والبنية الأساسية المباشرة وغير المباشرة، فقد أصبحت تكلفة استضافة الألعاب الأولمبية باهظة بشكل واضح، حيث أنفقت بكين أكثر من 40 مليار دولار على الألعاب الصيفية لعام 2008، وأنفقت سوتشي ما يزيد على 50 مليار دولار على الألعاب الشتوية لعام 2014، وبلغت تكاليف ريو نحو 20 مليار دولار للألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2016.
ويبرر زيمباليست اعتماده على التقديرات غير المتحفظة في مقابلته مع شبكة سي إن إن «إذا كنت تريد حقاً معرفة الفرق بين التكلفة والإيراد، فعليك تضمين كل شيء، لا يمكنك فقط تضمين 17 يوماً من التكاليف»، يقصد المُدة الفعلية لدورة الألعاب الأولمبية، «وعندما تغطي الإيرادات جزءاً بسيطاً من التكلفة، بمتوسط يتراوح من 6 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار منذ عام 2005 حتى الآن، تُظهر الحسابات غياب المنطق عن طلب الاستضافة».
ويتفق بعض التنفيذيين والرقابيين مع نهج زيمباليست في عدم تجاوز أي تكاليف مرتبطة بالتجهيز للأولمبياد.
في أواخر عام 2019، وجدت هيئة التدقيق الوطنية في اليابان أن تقديرات منظمي أولمبياد طوكيو للتكاليف، والبالغة 12.6 مليار دولار، لم تشمل 17 مليار دولار من التكاليف المباشرة.
فجوة التكلفة والعائد
وفي العام الماضي أعلنت اللجنة المنظمة للألعاب الشتوية ببكين 2022 فائضاً قدره 52 مليون دولار، بعد إنفاق 2.24 مليار دولار، ولكن تحقيق أجرته بيزنس إنسايدر أظهر أن التكاليف الإجمالية كانت على الأرجح أكثر من 10 أضعاف هذا المبلغ.
يقول زيمباليست «اللجنة الأولمبية تواجه بالفعل صعوبة في إقناع المدن بتقديم طلبات لاستضافة الألعاب الأولمبية، ولكن إذا صرّح أحد المتخصصين بأن تكلفة الاستضافة 30 مليار دولار فمن المؤكد ألّا يتقدم أحد لاستضافة الألعاب مرة أخرى».
وعلى الرغم من ادعاء الهيئات المنظمة استفادة المدن، على المدى الطويل، من عوائد تخض تطوير البنية التحتية وتحسين السمعة وجذب السياحة، فإن زيمباليست ينفي هذه الادعاءات بل يشير إلى خسائر، على المدى الطويل أيضاً، حيث من المرجح أن يؤدي تخصيص موارد الدولة من وقت وعمالة ومال لإنشاء منشآت ضخمة قادرة على استضافة الألعاب الأولمبية إلى تراجع تخصيص الموارد لتلبية احتياجات الدولة الحقيقية، بل واستنزاف الموارد المستقبلية من خلال تكاليف الصيانة المستمرة أو مدفوعات خدمة الديون، بما في ذلك المرافق الضخمة التي تُستخدم بشكلٍ غير متكرر أو تُترك للدمار، هذا بالإضافة إلى الأضرار قصيرة الأجل مثل الضرر البيئي، وتهجير السكان من ذوي الدخل المنخفض عادةً.
وتشير أماندا فالين، الأستاذ المساعد في كلية وارينجتون للأعمال بجامعة فلوريدا، في حديثها إلى شبكة سي إن إن، إلى غياب مفهوم «التأثير الاقتصادي الصافي». فعلى الرغم من أن الأحداث الرياضية، بما في ذلك الألعاب الأولمبية، تجتذب الكثير من الناس، «فإن هناك أيضاً الكثير من الناس الذين سيتخلون عن زيارتها للمدينة بسبب الحدث نفسه».
ما الحل؟
يقول زيمباليست إن المدن المستضيفة تستطيع تحقيق فائض من أنشطة الاستضافة إذا استطاع المجتمع استخدام المنشآت بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، وتشير فالين إلى نموذج ناجح، وهو بحيرة بلاسيد في نيويورك، فمنذ استضافة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 1980، ضخت بحيرة بلاسيد مئات الملايين من الدولارات إلى مرافقها الأولمبية فأصبحت وجهة سياحية وتجارية «يتطلب الأمر أحياناً استثمارات إضافية كبيرة بعد إطفاء الشعلة الأولمبية».
وأخبرت هيئة التنمية الإقليمية الأولمبية في بحيرة بلاسيد شبكة سي إن إن أن البحيرة مستمرة في جذب السياحة، وجذب بطولات كبرى جديدة، بما في ذلك كأس العالم للدراجات والرياضات الثلجية، وتطوير الرياضيين المستقبليين، وينتج عن هذه الأنشطة تأثيراً اقتصادياً سنوياً قدره 341.8 مليون دولار، وفقاً لدراسة اقتصادية سياحية حديثة.
من ناحية أخرى كانت دورة باريس 2024 أول دورة تتوافق مع توصيات اللجنة الأولمبية الدولية لخفض التلوث، ويشمل ذلك التوسع في إعادة التدوير، وبناء مركز للرياضات المائية منخفض البصمة الكربونية ومُصمم للاستخدام المستقبلي من قبل الجمهور والأولمبيين الفرنسيين على حد سواء، كما سيتم تحويل القرية الأولمبية في باريس إلى مكاتب ومساكن.
وهناك جهود مماثلة للضبط الاقتصادي والبيئي لدورة لوس أنجلوس 2028، حيث سيتم استغلال البنية التحتية القائمة بالفعل في لوس أنجلوس وأوكلاهوما.
مع ذلك يرى خبراء الاقتصاد أن الأمر قد يتطلب خطوات أكثر جذرية في المستقبل حتى تكون الألعاب الأولمبية مستدامة بيئياً واقتصادياً، حيث اتفق ماثيسون وزيمباليست وفالين على اقتراح تخصيص مدينة واحدة أو مدينتين لاستضافة كل الألعاب الأولمبية في المستقبل، تقول فالين «ليس من المنطقي اقتصادياً بناء هذه الشبكة الضخمة من البنية التحتية الرياضية في مدينة جديدة كل أربع سنوات».