شهدت الأسواق المالية العالمية اضطرابات كبيرة نتيجة للسياسات النقدية التي يتبعها الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، منذ فترة ما بعد جائحة كوفيد-19، ويعتبر الدولار الأميركي في مركز هذه الأحداث، حيث يؤثر بشكل كبير على اقتصادات الدول الأخرى.

في ما يلي نحلل التأثيرات الحالية والمتوقعة لهذه السياسات على الدولار والأسواق العالمية، وفقاً لآراء بعض الخبراء وتوقعاتهم المستقبلية.

السياسات النقدية للاحتياطي الفيدرالي

منذ أوائل عام 2022، بدأ الاحتياطي الفيدرالي في اتباع سياسة نقدية متشددة بشكل ملحوظ لمكافحة التضخم المرتفع، وارتفعت أسعار الفائدة الفيدرالية من نطاق قريب من الصفر إلى أكثر من 5.25% بحلول منتصف عام 2023، هذه الزيادات في أسعار الفائدة هي الأكبر منذ عقود وتهدف إلى تقليل التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته في 40 عاماً.

رفع أسعار الفائدة يؤدي إلى زيادة تكلفة الاقتراض للأفراد والشركات، ما يقلل من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، ويضغط على الطلب في الاقتصاد، ما يساعد في تخفيف الضغوط التضخمية.

ورفع أسعار الفائدة بشكل متتالٍ لمواجهة التضخم المرتفع أدى إلى زيادة في قوة الدولار مقابل العملات الأخرى.

وإلى جانب رفع أسعار الفائدة، قام الاحتياطي الفيدرالي بتقليص ميزانيته العمومية التي تضخمت خلال فترة الجائحة، وبدأ الفيدرالي في تقليص حيازاته من السندات الحكومية وسندات الرهن العقاري بمعدل محدد شهرياً، وهو ما يُعرف بـ«التشديد الكمي» (Quantitative Tightening)، وهذه الخطوة تهدف إلى تقليل كمية السيولة في النظام المالي، ما يعزز من تأثير رفع أسعار الفائدة.

تأثير سياسات الفيدرالي على الدولار

تسببت الزيادات المستمرة في أسعار الفائدة في تعزيز قيمة الدولار، ما جعل السلع المستوردة أقل تكلفة للولايات المتحدة، بينما أصبحت الصادرات الأميركية أكثر تكلفة للدول الأخرى، وهذا أثر سلباً على العديد من الاقتصادات الناشئة التي تعتمد على صادراتها، وأدى إلى تراجع قيمة عملاتها مقابل الدولار.

كما تشهد الأسواق العالمية تقلبات كبيرة نتيجة لهذه السياسات، حيث تسعى الشركات والحكومات إلى التكيف مع ارتفاع تكلفة الاقتراض وزيادة تكلفة الاستيراد.

وفي الوقت نفسه، أدى ارتفاع الدولار إلى تراجع أسعار السلع العالمية مثل النفط والمعادن، ما أثر سلباً على الدول المصدرة لهذه السلع.

وصرح جيري باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، بأن رفع أسعار الفائدة هو أداة أساسية لمكافحة التضخم، وأن الفيدرالي ملتزم باستمرار هذه السياسة حتى يتم السيطرة على التضخم، وفي تصريحات حديثة، أشار إلى أن استمرار ارتفاع أسعار الفائدة سيبقى ضرورياً لتحقيق استقرار الأسعار، حتى وإن كان لذلك تأثير على الدولار والأسواق العالمية، ويعتبر باول أن الحفاظ على استقرار التضخم هو الأولوية الرئيسية، حتى لو كان ذلك يعني تقلبات في الأسواق، وفقاً لبيانات صحفية صادرة عن الفيدرالي.

تعزيز قوة الدولار

عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، يرتفع العائد على الأصول المقومة بالدولار الأميركي، ما يجذب المستثمرين الدوليين الذين يبحثون عن عوائد أعلى، وهذا الطلب المتزايد على الدولار يؤدي إلى رفع قيمته مقابل العملات الأخرى.

وارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة يعزز من جاذبية الأصول المالية الأميركية، مثل السندات والأسهم، ما يؤدي إلى تدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة وزيادة الطلب على الدولار.

كما أن تقليص الميزانية العمومية للفيدرالي يعني تقليل السيولة في النظام المالي، وهذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة في قيمة الدولار، حيث إن كمية الدولار المتاحة في الأسواق تصبح أقل، ما يعزز من قيمته.

قوة الدولار يمكن أن تؤدي إلى انخفاض أسعار السلع العالمية مثل النفط والمعادن، لأن السلع المقومة بالدولار تصبح أغلى بالنسبة للمشترين الأجانب، هذا يمكن أن يكون له تأثير على اقتصادات الدول المصدرة لهذه السلع.

والعديد من الدول والشركات العالمية تعتمد على التمويل بالدولار، وعندما يرتفع الدولار، تزداد تكلفة سداد الديون المقومة بالدولار، ما يمكن أن يؤدي إلى مشكلات مالية في الاقتصادات الناشئة والشركات العالمية.

تأثير السياسات النقدية على الأسواق العالمية

حذرت جانيت يلين التي شغلت منصب رئيسة الاحتياطي الفيدرالي سابقاً ووزيرة الخزانة حالياً، من أن رفع أسعار الفائدة بشكل كبير قد يكون له تأثيرات سلبية على النمو الاقتصادي العالمي، أكدت أن ارتفاع الدولار قد يؤدي إلى تباطؤ في الاقتصاد العالمي، خاصة في البلدان النامية التي تعتمد على التمويل بالدولار، وترى يلين أنه يجب توخي الحذر في تعديل السياسات النقدية لتجنب إحداث صدمات غير ضرورية في الأسواق العالمية، وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية.

يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تقليل تقييمات الأسهم الأميركية، حيث تصبح تكلفة الاقتراض أعلى للشركات، ويقل الإنفاق الاستثماري، وهذا قد يؤثر سلباً على أسواق الأسهم العالمية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأسواق الأسهم الأميركية.

والدول النامية التي تعتمد على التمويل الخارجي قد تواجه صعوبات بسبب ارتفاع قيمة الدولار وزيادة تكاليف التمويل، وهذه البلدان قد تواجه ضغوطاً على عملاتها، ما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي.

وهذا ما أكده تقرير صادر عن مورغان ستانلي أشار إلى أن استمرار السياسات النقدية المتشددة من قبل الاحتياطي الفيدرالي قد يعزز من قوة الدولار على المدى القصير، ومع ذلك، حذر التقرير من أن قوة الدولار قد تؤدي إلى تفاقم التحديات الاقتصادية في الأسواق الناشئة، حيث إن تكلفة الاقتراض بالدولار سترتفع، ما قد يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي في هذه البلدان، كما أشار التقرير إلى أن هناك احتمالية لتباطؤ في النمو العالمي إذا استمرت السياسات الحالية.

تأثير قوة الدولار على التجارة

أشار نوبو أوساكا، كبير الاقتصاديين في UBS إلى أن قوة الدولار الناتجة عن رفع أسعار الفائدة قد تكون مفيدة بالنسبة للمستثمرين الأميركيين، ولكنها يمكن أن تكون ضارة بالنسبة للدول التي تعتمد على الصادرات، وفقاً لأوساكا، إن ارتفاع الدولار يجعل السلع الأميركية أقل تنافسية في الأسواق العالمية، ما قد يؤدي إلى تراجع في الصادرات ويزيد من الضغوط الاقتصادية على الشركات الأميركية التي تعتمد على الأسواق الدولية.

قوة الدولار تجعل الصادرات الأميركية أكثر تكلفة بالنسبة للأسواق الدولية، ما يمكن أن يؤدي إلى تراجع في الصادرات ويؤثر سلباً على الشركات الأميركية التي تعتمد على الأسواق الخارجية.

من ناحية أخرى، قوة الدولار تجعل الواردات أرخص، ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة في واردات الولايات المتحدة، وهذا يمكن أن يؤثر على العجز التجاري ويؤدي إلى تأثيرات على الصناعات المحلية.

السياسات النقدية للدول الأخرى

يرى ويلي ماكنالي، خبير اقتصادي في بنك غولدمان ساكس، أن السياسات النقدية المتشددة قد تؤدي إلى تحقيق استقرار الأسعار في الولايات المتحدة، لكنها قد تخلق ظروفاً غير مواتية للأسواق العالمية، ويعتقد ماكنالي أن السياسة النقدية الحالية يمكن أن تسهم في زيادة تقلبات الأسواق المالية، وتؤدي إلى مخاطر متزايدة على النمو الاقتصادي العالمي، كما أضاف أن هناك حاجة إلى توازن بين الحفاظ على استقرار الأسعار وتعزيز النمو الاقتصادي الدولي.

وارتفاع الدولار يمكن أن يضغط على البنوك المركزية الأخرى لرفع أسعار الفائدة لمواكبة السياسة النقدية الأميركية، ما يمكن أن يؤدي إلى تباين في السياسات النقدية بين الدول المختلفة.

كما أن قوة الدولار يمكن أن تؤدي إلى تضخم أقل في الدول الأخرى، حيث إن السلع المستوردة تصبح أرخص، وهذا يمكن أن يؤثر على استراتيجيات السياسات النقدية في تلك الدول.

التوقعات المستقبلية.. هل يستمر ارتفاع الدولار؟

يتوقع العديد من الخبراء أن يستمر الدولار في الارتفاع على المدى القصير إذا استمر الاحتياطي الفيدرالي في اتباع سياسات نقدية متشددة، ومع ذلك، هناك عوامل قد تعرقل هذا الاتجاه، مثل تباطؤ الاقتصاد الأميركي أو تغييرات في السياسات النقدية العالمية، إذ يشير بعض الاقتصاديين إلى أن الدولار قد يصل إلى ذروته قريباً إذا ما توقفت زيادات الفائدة أو بدأت البنوك المركزية الأخرى في رفع أسعار الفائدة بوتيرة أسرع.

ترى لارا راينهارت، خبيرة اقتصادية في مورغان ستانلي Morgan Stanley، أن الدولار سيستمر في الارتفاع طالما استمر الفيدرالي في سياسته الحالية، ولكنها تحذر من أن القوة المفرطة للدولار قد تؤدي إلى تداعيات سلبية على الاقتصاد الأميركي على المدى البعيد.

فيما يتوقع جون تايلور، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، أن تبقى أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة، ما سيدعم الدولار، لكنه يحذر من أن هناك حداً لقدرة السوق على تحمل هذه السياسات.

والسياسات النقدية التي ينتهجها الاحتياطي الفيدرالي لها تأثير كبير على الأسواق العالمية، حيث عززت من قوة الدولار على حساب عملات الدول الأخرى، وعلى الرغم من التوقعات بمواصلة ارتفاع الدولار، فإن هناك العديد من العوامل التي قد تؤدي إلى تغيير هذا الاتجاه في المستقبل، ومن المهم مراقبة التطورات الاقتصادية والسياسات النقدية العالمية لاتخاذ قرارات استثمارية مدروسة.