اصنع في الإمارات.. إلى العالم

اصنع في الإمارات.. إلى العالم
أحمد سعيد العلوي clock

أحمد سعيد العلوي

رئيس تحرير CNN الاقتصادية

"الرجال هي التي تصنع المصانع.. هي التي تصنع حاضرها ومستقبلها"، هكذا وضع القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، النواة الأولى لاستراتيجية الصناعة في دولة الإمارات، فخلف كل أرقام تتحقق هناك قصة إنسان، قصة مهندس إماراتي يقف اليوم خلف الآلات، قصة باحثة تطور مواد جديدة تدخل في إنتاج لقاحات وطنية، قصة شاب يدير مصنعاً يُصدر إلى العالم، هذه هي الصناعة في الإمارات ليست مجرد إنتاج، بل هي إبداع وتمكين وريادة.

فقد نهضت دولة الإمارات العربية المتحدة على رؤية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان التي تجاوزت أحلامه حدود الزمن، فصنع من الحلم دولة، ومن الدولة قصة، ومن القصة مستقبلاً، ذلك الرجل الذي أدرك منذ البدايات أن الأوطان لا تُبنى فقط على مصدر محدود وناضب مثل النفط، بل بالإنسان والصناعة والمعرفة، من هنا غدت رؤيته واضحة في تطوير القطاع الصناعي، وكانت من أهم أولوياته في تلك المرحلة تأسيس بنية تحتية صلبة تكون قادرة على حمل طموحات الدولة الحديثة، وبالفعل أثبتت الأيام بُعد نظرته وسعة أفقه؛ فكانت الطرق الجديدة، والمطارات الدولية، والموانئ البحرية، وشبكات الخطوط الهاتفية المتطورة هي الجذور التي نبتت منها شجرة الصناعة، وأبرزت الإمارات كلاعب رئيسي في العالم الصناعي الحديث.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

ومن هنا، وحين نُمعن النظر في التحولات الكبرى التي شهدتها دولة الإمارات منذ تأسيسها عام 1971، فإن القطاع الصناعي يبرز بوصفه شاهداً جوهرياً على تطور البلاد، لا من حيث البنية التحتية وحسب، بل من حيث الرؤية والابتكار والمنافسة العالمية، لقد اختارت الإمارات مبكراً أن يكون التصنيع إحدى دعاماتها الاقتصادية، فمضت في هذا الطريق بعزم لا يلين، وبإرادة صلبة لا تكسرها التحديات الإقليمية والعالمية، مرتكزة على فلسفة تقوم على التكامل بين الطموح الوطني والانفتاح العالمي، بين الاستثمار في الإنسان والانخراط في ثورات التقنية المتلاحقة.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

ولأن النهايات تكتبها البدايات، ولأنه لا يوجد حصاد بدون زراعة، كان لزاماً أن نُقلب صفحات التاريخ الصناعي للإمارات، حتى نلمس كيف كانت البدايات تحمل ملامح طموح أكبر من الإمكانيات المتاحة آنذاك، حيث لم تكن هناك قاعدة صناعية كبيرة، بل كانت الإمارات دولة فتية تعتمد في اقتصادها بشكل شبه كلي على تصدير النفط الخام، لكن بوصلة الرؤية كانت تشير إلى ما هو أبعد من الآبار والمنشآت النفطية، إلى المصانع والمعامل، إلى مدن الإنتاج، إلى التنويع.

ومن هنا لم تعد الصناعة في دولة الإمارات خياراً تكميلياً، بل باتت ضرورة وجودية وركناً من أركان الاستقرار والنمو المستدام، ولعل ما يشهده القطاع الصناعي الإماراتي في الوقت الراهن من تحوّل رقمي متسارع، وتكامل مع منظومات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والخوارزميات الذكية، إنما يعكس انتقال الإمارات من مرحلة التصنيع إلى مرحلة "إعادة تعريف التصنيع"، إنها تنتقل من الصناعة بوصفها إنتاجاً إلى الصناعة بوصفها ابتكاراً.

فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، دخلت الصناعة الإماراتية مرحلة جديدة من النضج والتمكين، وبحسب البيانات الحديثة وصل عدد المؤسسات في سوق التصنيع إلى نحو 36 ألفاً مع نهاية عام 2024، وبلغ عدد الموظفين في هذا المجال أكثر من 737 ألف شخص، ما أسهم في الناتج المحلي الإجمالي بما يقارب  205 مليارات درهم، وهو ما شكل حجر الزاوية في استراتيجية التنويع الاقتصادي التي تسعى لأن تجعل مساهمة القطاع غير النفطي تتجاوز 50% من الناتج المحلي بحلول عام 2031.

في هذا السياق، جاء إطلاق "استراتيجية الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة" عام 2021، تحت شعار "مشروع 300 مليار"، بمثابة نقطة تحول فارقة في مسار التصنيع الإماراتي، إذ تهدف هذه الاستراتيجية إلى رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 133 مليار درهم إلى 300 مليار درهم بحلول عام 2031، ما يعكس طموحاً وطنياً غير مسبوق لإعادة تعريف الصناعة العربية بصيغة حديثة قائمة على الابتكار والاستدامة والسيادة التقنية، والاكتفاء الذكي، والتصنيع السيادي، والتنمية القائمة على الابتكار.

اصنع في الإمارات.. إلى العالم

ولم تكن تلك الرؤية لتتحقق لولا تأسيس بنية تحتية صناعية تُضاهي نظيراتها في الدول المتقدمة، ما خلق بيئة تمكينية للاستثمار الصناعي تعززها التشريعات المرنة، ما جعل من الإمارات بيئة خصبة للابتكار والتصنيع الذكي، فقد أنشأت الدولة مناطق صناعية ومدناً متخصصة تُعد من بين الأكثر تطوراً في المنطقة، مدينة خليفة الصناعية (كيزاد)، على سبيل المثال، تضم ميناء خليفة، أحد أكثر الموانئ تطوراً في العالم، ما يوفر قدرات لوجستية متميزة للشركات العاملة فيها.

وفي دبي، تُعد منطقة دبي الصناعية، التي تمتد على مساحة 560 مليون قدم مربعة وتضم نحو 1000 شركة صناعية، مركزاً حيوياً للصناعات المختلفة، مع ربط مباشر بميناء جبل علي ومطار آل مكتوم الدولي أحد أكبر المطارات العالمية، أما مجمع دبي للاستثمار، فهو مركز متكامل للصناعات الخفيفة والمتوسطة، ويضم مناطق متخصصة مثل مدينة دبي للسيليكون لصناعات التكنولوجيا المتقدمة.

ولم تغفل الإمارات عن الصناعات المتخصصة، فأنشأت مدينة دبي الصناعية للطيران، التي تمتد على مساحة 6.7 كيلومتر مربع، وتضم منشآت متطورة لصيانة وإصلاح وتجديد الطائرات، كما تأسست مدينة الشارقة للإعلام (شمس)، التي تركز على الصناعات الإبداعية والإعلامية، وتوفر بيئة متكاملة لهذه الصناعات.

أما في الجانب التكنولوجي، فقد استثمرت الإمارات في بنية تحتية تكنولوجية متقدمة، تشمل شبكة اتصالات بتقنيات الجيل الخامس (5G) وألياف بصرية عالية السرعة، ومراكز بيانات عملاقة تدعم التحول الرقمي للصناعة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، كما تمتلك منظومة متكاملة للطاقة، تضم مصادر متنوعة للطاقة التقليدية والمتجددة، ما يضمن إمدادات مستقرة للمنشآت الصناعية، إضافة إلى شبكة الطرق المتكاملة، التي تربط بين مختلف الإمارات والمناطق الصناعية، وشبكة السكك الحديدية المستقبلية (الاتحاد للقطارات)، وهو ما يعزز من كفاءة النقل والتوزيع.

اصنع في الإمارات.. إلى العالم

وها هي الإمارات تحصد ما زرعت، ونعم الحصاد الذي يأتي من النهضة الصناعية، فها هي نماذج وطنية مشرفة تتألق مثل شركة الإمارات العالمية للألومنيوم، التي أصبحت واحدة من أكبر خمس شركات منتجة للألومنيوم في العالم، وشركة "ستراتا" التي تصنع هياكل الطائرات بأيدٍ إماراتية وتُصدّرها إلى "إيرباص" و"بوينغ"، ومجموعة "جلفار" للأدوية التي تمتد منشآتها إلى أكثر من 50 دولة، والتي أسهمت في تحقيق الأمن الدوائي، لا سيما في ظل جائحة كورونا، وصولاً إلى "مصدر" التي تقود الصناعات المستقبلية في مجال الطاقة النظيفة، هذه النماذج ليست فقط دليلاً على النجاح ، بل على نضوج الرؤية الإماراتية واستدامتها.

ولعل منتدى "اصنع في الإمارات"، الذي يُعقد هذا العام في نسخته الرابعة، ليس إلا مرآة تعكس هذا التحول العميق، فهنا لا يُحتفل فقط بالإنجاز، بل تُرسم خرائط الغد، وقد شهدت النسخ السابقة توقيع عشرات الاتفاقيات التي تجاوزت قيمتها الإجمالية 110 مليارات درهم، في مشاريع تتنوع بين الدفاع والطيران والصناعات الثقيلة والرقمية والدوائية والغذائية، وهي شراكات لا تُبنى على الاستيراد فقط، بل على نقل التكنولوجيا وتوطينها، وعلى تدريب الكوادر الوطنية وتمكينها.

وقد جاءت مبادرة "اصنع في الإمارات" كترجمة عملية لرؤية الـ"300 مليار"، هادفة إلى تحفيز الاستثمار الصناعي المحلي والأجنبي، وزيادة القيمة المضافة المحلية، وتطوير الصادرات الصناعية الإماراتية، وخلق 13,500 وظيفة صناعية ذات مهارات عالية بحلول عام 2031، وفي هذا كله لا تُراهن الإمارات على الكم فقط، بل على الكيف، عبر تحفيز الصناعات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الدائري، والروبوتات، والتقنيات النظيفة، وصناعات الفضاء والدفاع والأمن الغذائي.

لقد نجحت الإمارات في جعل الصناعة لغة جديدة للسيادة، وأداة لصناعة المستقبل، ومنصة لتكامل الطموح الوطني مع التحولات العالمية، وما كان لهذا كله أن يتحقق لولا إيمان راسخ بأن الصناعة ليست فعلاً تقنياً فحسب، بل إنها مشروع نهضوي بامتياز، يستند إلى رؤية، ويُدار بعقل، وينبض بقلب وطن.

هذا التقدم اللافت تُوّج بتصنيف دولي مرموق، إذ ارتقت الإمارات إلى المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والسابعة عالمياً في الكتاب السنوي للتنافسية العالمية الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية لعام 2024، وهو إنجاز يعكس فاعلية الاستراتيجية الوطنية، ويؤكد ما حققته الدولة من بنية تحتية متطورة، وتشريعات داعمة، وتمويل تحفيزي من مؤسسات كصندوق التنمية الصناعية الإماراتي.

ولأن الإنسان هو وسيلتها وهدفها في الوقت نفسه، لم تتوانَ دولة الإمارات في تحقيق المعادلة الأصعب على الإطلاق، وهي في كيفية تحقيق التوازن بين الصناعة والحفاظ على كوكب الأرض، ومن هنا كانت استضافتها مؤتمر الأطراف "كوب 28"، حرصت خلاله على التأكيد أن المسار الصناعي لا يتعارض مع الالتزام المناخي، بل يمكن أن يشكل رافعة له، خاصة في ظل التزام الإمارات بتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050.

وفي هذا الإطار، تفتح الإمارات آفاقاً واسعة أمام تطوير الصناعات الخضراء، من تقنيات الطاقة المتجددة وأنظمة تخزينها، إلى حلول التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه، وصولاً إلى الهيدروجين الأخضر والأزرق، ما يرسخ مكانتها مركزاً عالمياً للابتكار المناخي.

إن تطور الصناعة في الإمارات ليس فقط شهادة على نجاح سياسات حكومية مدروسة، بل أيضاً على نضج مجتمع يرى في الصناعة رمزاً للسيادة، وفي المنتج المحلي عنواناً للفخر، إنها قصة بدأت من خيمة، وانتهت عند بوابة مصنع ذكي يكتب بآلاته قصيدة جديدة من قصائد زايد، لا تُقال بالكلمات، بل بالأفعال.