مصر وتركيا والغاز والنفوذ.. دبلوماسية الأقواس المفتوحة

مصر وتركيا والغاز والنفوذ.. دبلوماسية الأقواس المفتوحة
أيمن صالح clock

أيمن صالح

مساعد رئيس تحرير CNN الاقتصادية

 لطالما اتسمت العلاقات المصرية التركية بتقلبات حادة تُعبر عن مزيج معقد من التنافس والتعاون، يجمع بين البرود السياسي والتشابك الاقتصادي المتنامي.

فعلى الرغم من سنوات الجفاء الدبلوماسي التي أعقبت عام 2013، لم تتوقف المصالح الاقتصادية بين البلدين، بل شهدت نمواً لافتاً في حجم التبادل التجاري، في مشهد يعكس قدرة الاقتصاد على تجاوز الحسابات السياسية البحتة.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

تتجلى هذه المفارقة بشكل أوضح في ملف الطاقة، حيث تتقاطع طموحات أنقرة مع موقع القاهرة المحوري في خريطة الغاز شرق المتوسط، فبينما تتنافس الدولتان على النفوذ الإقليمي ومواقع التحالفات، لا يغيب من المشهد سعي الشركات التركية للاستثمار في السوق المصري، واهتمام أنقرة بإيجاد موطئ قدم في معادلة الطاقة المتغيرة.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

هذا التداخل بين الخصومة والتقارب يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة بين البلدين: هل هي شراكة اضطرارية أم توازن مصالح مؤقت؟ وهل يمكن للملف الاقتصادي أن يكون رافعة لتطبيع شامل، أم أنه مجرد استثناء في معادلة سياسية مضطربة؟ تلك هي بعض الإشكاليات التي تسعى هذه السطور لتفكيكها عبر قراءة معمقة لتناقضات المشهد المصري التركي.

وفيما تستعد مصر لاستقبال ضيف ثقيل خلال الفترة الأشهر الأربع المقبل، ألا وهو فصل الصيف والمتوقع أن يكون أشد حرارة من فصول الصيف السابقة، وفي عرف العلاقات الدولية كل شيء يصبح مباحاً من أجل مستقبل الوطن وأحلام المواطن، تبرز تناقضات الموقف المصري التركي الذي يبدو أننا أمام مشهد بطله الغاز الذي قد يذيب ما تبقى من الجليد من القاهرة وأنقرة.

تركيا ومصر والنموذج المرن

فمع انتصاف مايو الحالي، أعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار أن وحدة تخزين عائمة للغاز الطبيعي المسال (FSRU) مملوكة لشركة الطاقة الحكومية بوتاش تم إقراضها إلى مصر، في خطوة تمثل المرة الأولى التي تعمل فيها وحدة من هذا النوع من تركيا في الخارج بشكل مؤقت.

جاء ذلك في بيان مكتوب لبيرقدار عقب اجتماعه مع وزير البترول والثروة المعدنية المصري كريم بدوي، قال فيه إن الاجتماع الذي تزامن مع الذكرى المئوية للعلاقات الدبلوماسية بين تركيا ومصر أسفر عن توقيع اتفاقيتين رئيسيتين لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، ما يمثل معلماً جديداً في التواصل الدولي لتركيا في مجال الطاقة.

بيرقدار أكد أيضاً أنه "مع توقيع العقد بين شركتنا الوطنية بوتاس وشركة الطاقة الحكومية المصرية إيجاس، سيتم نشر وحدة عائمة لتخزين الغاز الطبيعي من أسطول بوتاس خارج البلاد لأول مرة"، سيمكن هذا من تطبيق نموذج مرن وفعال يسهم في تأمين إمدادات الغاز الطبيعي لكل من تركيا ومصر، قائلاً: "أعتقد بصدق أن هذه الخطوات ستفتح صفحة جديدة في علاقات الطاقة بين تركيا ومصر، وآمل أن تعود بالنفع على كلا البلدين".

الغاز يكمن في التفاصيل

تحمل تفاصيل الإعلان التركي دلالات شاملة على ترسيخ التعاون المؤسسي في قطاعي الهيدروكربونات والتعدين بين القاهرة وأنقرة من جهة، ونشر وحدة تركية عائمة لتخزين وإعادة تغويز الغاز الطبيعي من جهة أخرى.

حيث تشير الأرقام المعلنة للجمهور من طرف واحد، هو الجانب التركي، أن مصر ستستقبل سفينة تغويز تركية خلال الفترة من يونيو حتى نوفمبر 2025، من أجل توفير إمدادات يومية من الغاز الطبيعي تصل إلى 500 مليون قدم مكعبة، مقابل نحو 45 مليون دولار، حيث تعد السفينة التركية خامس سفينة تغويز تتعاقد عليها مصر منذ عودتها إلى استيراد الغاز المسال في أبريل من العام الماضي.

يحمل الإعلان التركي أيضاً في طياته باقة سياقات تشير إلى ذوبان تام للجليد مع القاهرة ويعكس شراكة متنامية لكن بقواعد جديدة، حيث تصدرت تركيا قائمة الدول المستوردة للغاز المسال المصري في عام 2023 وذلك باستيراد 933 ألف طن، لكن الوضع اختلف كثيراً وتحديداً في سبتمبر من العام الماضي (2024) حين تم توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي رفيعة المستوى و17 مذكرة تفاهم كذلك، وبعد مرور أقل من شهرين أعلنت شركة إرجياس التركية عزمها إنشاء مصنع في مصر لإنتاج أنابيب النفط والغاز الطبيعي، باستثمارات 60 مليون دولار.

مصر وتركيا وما وراء الأرقام

مسار الأرقام التي تربط القاهرة بأنقرة والعكس يكشف أن هناك دوافع متبادلة، إذ تسعى تركيا لتعزيز نفوذها الإقليمي في قطاع الطاقة عبر شراكات دولية واتفاقيات استكشاف مع دول إقليمية كـ(ليبيا والعراق وأذربيجان) وهنا نستطيع أن نُبقي القوس مفتوحاً لنضيف مصر، بهدف تحقيق الاستقلالية ودعم حضورها الخارجي رغم التحديات الجيوسياسية التي تحيط بالعالم.

في المقابل تستهدف مصر عقد اتفاقيات خارجية لتأمين احتياجاتها وتقليص اعتمادها على الاستيراد المتزايد، بسبب تراجع الإنتاج واتساع فجوة الإمداد التي بلغت 200 ألف برميل يومياً في 2024، وهنا أيضاً سنترك الأقواس مفتوحة أمام ما تحمله حرارة الصيف المقبل بالقاهرة وعدم تعاطي القاهرة إعلامياً مع إعلان بيرقدار الخاص بسفينة التغويز رغم قدرته على تخفيف الضغوط نوعاً ما عن حكومة الدكتور مدبولي.