مدن تكتب مستقبلها بالخوارزميات: كيف تعيد الثورة الصناعية الخامسة هندسة مستقبل المدن؟

مدن تكتب مستقبلها بالخوارزميات: كيف تعيد الثورة الصناعية الخامسة هندسة مستقبل المدن؟
طالع الأسمري clock

طالع الأسمري

كاتب ومستشار في مبادرات التنمية المستدامة والتميز المؤسسي

حين نهضت المدن العربية في بدايات القرن الحادي والعشرين، كانت المصانع وأفران الصهر وأعمدة الدخان هي الشاهد الأوضح على زمنها وعصرها الصناعي، كانت ضوضاء الآلات نشيداً على التنمية، وكان الحديد والصلب رمز القوة.

لكن ما لبث أن تبدّل المشهد في العقد الثاني من الألفية، حيث أطلت الثورة الصناعية الرابعة، محمّلة بأتمتة شاملة، وإنترنت الأشياء، وذكاء اصطناعي لا يعرف الكلل، مدن العالم ركبت الموجة.. بينما بقيت كثير من المدن تراقب وتحلم، وتقف مدن أخرى على أعتاب المصانع التقليدية وحلمها القديم.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

واليوم، ونحن على مشارف الثورة الصناعية الخامسة، حيث تتقدّم "الإنسانية الصناعية" وتعود القيم إلى صُلب العملية الإنتاجية، لم يعد يُقاس المجد بما أُنجز، بل بما يُجرأ على تخيّله.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

الثورة الصناعية الرابعة والمدن العربية

حاولت الثورة الصناعية الرابعة إعادة تشكيل المشهد الصناعي العالمي، فنهضت مدن مثل شينزين، وميونخ، وسيؤول كرموز للتحول الرقمي، أما في العالم العربي، فقد كانت السعودية في طليعة الساعين لتوطين هذا التحول، عبر رؤية  السعودية 2030 التي جعلت الرقمنة والذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة من مرتكزاتها الاستراتيجية والتنموية، وكانت الإمارات أول دولة في العالم تسمي وزيرا للذكاء الاصطناعي.. مدن سعودية مثل الرياض، التي تتبنى أنظمة الحوكمة الرقمية والمدن الذكية، ومدن كنيوم بمشروعها الثوري «أوكساچون» الذي يمثل قلب الثورة الصناعية الخامسة، تعكس جميعها هذا التوجه على أرض الواقع، ورغم التحديات الاقتصادية العالمية، أرست السعودية معياراً تنموياً خاصاً يجمع بين البنية التحتية الرقمية المتقدمة، وتمكين الكفاءات الوطنية، والتكامل المؤسسي، ما يجعلها ضمن المدن العربية الرائدة في قيادة مشهد الصناعة الذكية في المرحلة المقبلة. مدن مثل أبوظبي ودبي اللتان تقودان المشهد عبر شراكات "ذكية" مع كبرى شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة تعدان نموذجا قريبا منّا لمعنى تطور المدن.

الثورة الصناعية الخامسة.. من هندسة الإنتاج إلى هندسة الإنسان

تعيد الثورة الصناعية الخامسة تعريف مفهوم الصناعة من جذوره؛ فهي لا تقتصر على التقنيات، بل تضع الإنسان في مركز منظومة الإنتاج، وتؤسس لتفاعل ذكي بين البشر والآلات، مدن مثل طوكيو وكوبنهاغن كانت من أوائل من تبنّى هذا النموذج المتقدم؛ حيث طورتا منصات رقمية تفاعلية تجمع بين الإنسان والذكاء الاصطناعي لخلق بيئة حضرية أكثر استدامة وفعالية وجودة حياة، وقد تصدرت كوبنهاغن مؤشرات المدن الذكية المستدامة وفق تقرير IESE Cities in Motion 2023، في حين تُعد طوكيو من أبرز رواد التحول الرقمي الحضري على مستوى آسيا والعالم.

نيوم.. المدينة التي تُهندِس الحلم وتُعيد تعريف الصناعة

تقدم مدينة نيوم السعودية من خلال مشروعها « أوكساچون » نموذجاً عالمياً ثورياً في تطبيق مفاهيم الثورة الصناعية الخامسة، فهي لا تسعى فقط لتبني الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والتوأم الرقمي، بل تهدف إلى إعادة تعريف مستقبل المدن الذكية عالمياً، وقيادة التحول الصناعي الحضري ليس عربياً، بل عالمياً أيضاً.

المدن العربية.. الإمكانات والتحديات

رغم الإمكانات الهائلة، تواجه المدن العربية صعوبات كبرى في التحول إلى الثورة الصناعية الخامسة؛ أبرزها: البنية الرقمية، والفجوة في المهارات، وغياب التشريعات المواكبة، ولكن هناك نافذة لفرص فريدة؛ فالشباب العربي يملك قدرة فطرية كبيرة على التكيف الرقمي، وتتوفر الموارد البشرية والاقتصادية لتأسيس مدن ذكية، قادرة على اجتذاب استثمارات نوعية وبناء نموذج استدامة فعال.

خارطة طريق مقترحة للتحوّل في المدن العربية

للانتقال من المصانع التقليدية إلى منصات الثورة الصناعية الخامسة، تحتاج المدن العربية إلى استراتيجية شاملة تشمل؛ إعداد مهندسي منصات قادرين على الابتكار وتوظيف التقنيات الذكية عبر برامج تدريب وتطوير نوعية ومستدامة بشراكات عالمية، اعتماد التوأم الرقمي في قطاعات التصنيع والخدمات، الالتزام الصارم بمعايير الاستدامة، تطوير أطر الحوكمة الرقمية لحماية الخصوصية، بناء استراتيجية مع رواد المدن الذكية عالميًا.

من الحديد إلى الخيال.. ومن خط الإنتاج إلى خريطة المستقبل

لقد تغيّر تعريف الصناعة، ولم يعد إنتاج الحديد والصلب معيار القوة، بل القدرة على هندسة الأفكار، وتسخير الذكاء الاصطناعي لصناعة قيمة مضافة، والمدن التي تدرك هذا التحول، لن تكتفي بالمشاركة في المستقبل، بل ستكتبه بأيديها.

في زمن الثورة الصناعية الخامسة، لم يعد كافياً أن تكون المدينة ذكية بالبنية التحتية، بل أن تكون ناضجة بالقرار، وعميقة في إنسانيتها، فالخوارزميات لا تصنع حضارة ما لم يرافقها وعي، ولا تبنى مدينة ما لم توجَّه برؤية.

إن المدن العربية، بما تملكه من طاقات شابة وسياقات اقتصادية وثقافية متجددة، أمام لحظة فاصلة؛ لحظة لا تتعلق بتقليد تجارب الأخرين، بل بتوليد وابتكار تجربة خاصة بها.

فالمستقبل، كما الصناعة لا يُورّث.. بل يُنتزع بالخيال!

ولم تعد الأسئلة الكبرى تُطرح حول عدد المصانع ولا امتداد خطوط الإنتاج، بل حول حجم الجرأة على كسر القوالب، وإعادة تخليق المعنى ذاته للصناعة، فالعصر لا ينتظر من يواكب، بل من يبتكر معجمه الخاص، ومن يملك شجاعة إعادة تعريف الصناعة، لن يكون مجرد جزءٍ من مستقبل العالم؛ بل سيصبح المستقبل جزءاً من قصته.

تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.