التكامل الاقتصادي الخليجي.. من التنسيق إلى التنفيذ

التكامل الاقتصادي الخليجي.. من التنسيق إلى التنفيذ
جابر محمد الشعيبي clock

جابر محمد الشعيبي

كاتب وباحث إماراتي

على مدى أكثر من أربعة عقود، شكّل مجلس التعاون لدول الخليج العربية إطاراً للتنسيق الاقتصادي والتكامل الاستراتيجي، إلّا أن الانتقال من التنسيق إلى التنفيذ ظل محدوداً في سرعته وتأثيره. فبينما وُضعت أهداف طموحة منذ تأسيس المجلس عام 1981، واجه التنفيذ الفعلي تحديات سياسية وتشريعية وهيكلية حالت دون تحقيق التكامل المنشود. لكن مع التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة، برزت الحاجة إلى تكتل اقتصادي خليجي قادر على مواجهة الأزمات، وتحويل الثقل الجغرافي والمالي لدول المجلس إلى نفوذ استراتيجي يعزّز الرفاه والأمن الاقتصادي لمواطنيه.

شهد النصف الأول من عام 2025 تقدماً ملموساً في مسار الاتحاد الجمركي الخليجي، حيث تم تفعيل الطرف الثاني من الاتفاقية الجمركية الموحدة، واعتماد النظام الموحّد للتعرفة الجمركية على مستوى 12 رقماً.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

وقد أدّى ذلك إلى تقليص الزمن المستغرق في المعاملات عبر الحدود بنسبة وصلت إلى 40%، ما أسهم في تعزيز حركة التجارة البينية، لا سيما في السلع الزراعية والمنتجات الوسيطة، ورفع مرونة سلاسل الإمداد وخفض التكلفة على المستهلك النهائي، ودعم تنافسية الصادرات الخليجية، إلى جانب تعزيز مكانة الموانئ الخليجية كمراكز عبور إقليمي وعالمي.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

التكامل الرقمي مثّل خطوة نوعية لا تقل أهمية عن الاتحاد الجمركي، إذ لم يعد مجرد أداة تحسين إداري، بل هو تحول إلى ركيزة لاقتصاد المستقبل الخليجي، وقد أحرزت دول المجلس تقدماً لافتاً في مؤشرات الحكومة الرقمية، مع إطلاق الإمارات والسعودية والبحرين مشاريع ربط سحابي مشترك وخدمات حكومية عابرة للحدود. وأسهم التنسيق في إطار «منظمة التعاون الرقمي» في توحيد السياسات المتعلقة بالبيانات والذكاء الاصطناعي وحماية الخصوصية، ما مهّد الطريق لتطبيقات موحدة في التجارة الإلكترونية والخدمات المالية. هذا التقدم الرقمي خلق سوقاً إلكترونية موحدة في طور التشكّل، تُمكّن الشركات الخليجية من العمل بانسيابية عبر حدود الدول الأعضاء، وتمنح المواطن تجربة رقمية متناغمة تعزّز اندماجه في بيئة اقتصادية موحّدة.

في موازاة ذلك، تبنّت دول الخليج سياسة استثمارية جماعية أكثر طموحاً من خلال إطلاق لجنة تنسيق بين الصناديق السيادية الخليجية بهدف تمويل مشاريع استراتيجية عابرة للحدود في مجالات حيوية مثل الطاقة المتجددة والنقل والتكنولوجيا الصناعية. هذه الخطوة، التي تُعدّ سابقة على مستوى التنسيق الاستثماري، من المتوقع أن ترفع معدل الناتج المحلي غير النفطي بنسبة تصل إلى 2% سنوياً خلال السنوات الثلاث المقبلة، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي.

كما يجري العمل على تطوير تصنيف خليجي موحد للمشاريع ذات الأولوية الإقليمية، لتوجيه الموارد بفاعلية نحو البنى التحتية المشتركة والمدن الصناعية التكاملية.

لم تكن التحولات داخلية فحسب، بل لعبت التطورات الإقليمية دوراً مسرّعاً لهذا المسار. فقد شكّل التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران خلال النصف الأول من عام 2025 نقطة تحول في أولويات دول الخليج، ففي ظل هشاشة الأمن الإقليمي، بات واضحاً أن الحماية لا تقتصر على التحالفات الأمنية، بل تبدأ من بناء تكتل اقتصادي منيع. في اجتماع المجلس الوزاري لمجلس التعاون في يونيو 2025، أُعلن رسمياً إطلاق جهود لتسريع الانتقال من مرحلة التعاون إلى الاتحاد، مع توجيهات بإكمال الإجراءات اللازمة لتعزيز الوحدة الاقتصادية خلال الفترة المتبقية من العام.

انطلاقاً من ذلك، دشّنت دول الخليج مبادرات لربط شبكات الطاقة والموانئ والمخازن اللوجستية بهدف خلق ممر إمداد خليجي موحد يقلل هشاشة سلاسل التوريد أمام أي أزمة، كما تم الاتفاق على توحيد تشريعات الأمن الغذائي وتبادل الطاقات الفائضة. ويعكس هذا التوجه وعياً متزايداً بأن الأمن الاقتصادي جزء لا يتجزأ من منظومة الدفاع الشامل، وأن الاستجابة الجماعية باتت تتجاوز حدود التنسيق إلى الفعل المؤسسي المشترك. هذا التحول يواكب أيضاً الحاجة المتزايدة إلى استقلال اقتصادي نسبي عن مراكز التوتر في الإقليم، ويعزّز المطالبة بتحويل مجلس التعاون إلى اتحاد اقتصادي مرن، يحاكي النموذج الأوروبي وتتيح التفاوض الجماعي مع التكتلات الدولية.

في هذا الإطار، يُنظر إلى التكتل الخليجي كمشروع مرشح للتأثير في هندسة التكتلات الدولية الكبرى. فمع ما يمتلكه من ثروات طبيعية وقوة مالية وموقع جغرافي يربط الشرق بالغرب، يستطيع مجلس التعاون أن يكون شريكاً استراتيجياً لتكتلات مثل «بريكس» و«الآسيان»، ويعزّز من حضوره في منظومات كـ«الاتحاد الأوروبي» عبر شراكات اقتصادية شاملة، بل إن النموذج الخليجي ذاته قد يصبح مرجعاً في كيفية بناء تكتلات مرنة تستند إلى المصالح الاقتصادية المشتركة، كما الحال في أوروبا بعد تجربة «بريكست».

وفي عمق هذا التحول، يبقى المواطن الخليجي في قلب الرؤية. فقد تعززت جهود تسهيل التنقل بين دول المجلس، سواء في فرص العمل أو الإقامة أو الحصول على الخدمات الاجتماعية. وبدأت أنظمة موحدة للاعتراف بالمؤهلات الأكاديمية والمهنية، وتفعيل بطاقات موحدة للخدمات الحكومية. هذه الخطوات لا تشكّل فقط تحسينات بيروقراطية، بل تجسّد مفهوم «المواطنة الاقتصادية الخليجية»، التي تجعل من الحدود الإدارية تفاصيل ثانوية أمام وحدة اقتصادية أوسع وأكثر تأثيرًا في حياة الأفراد.

لكن رغم هذه المكاسب، ما زالت تحديات تفرض نفسها، أبرزها قضية الباحثين عن عمل التي تبرز بشكل خاص في الدول ذات التركيبة السكانية الشابة، وهذا يتطلب خططاً خليجية موحدة لتحفيز الاستثمار في قطاعات اقتصادية جديدة والتعليم المهني، وخلق بيئة ريادة أعمال تُسهم في توظيف العقول المحلية. من ناحية أخرى، يُعد التضخم عائقاً مباشراً أمام تحسين جودة الحياة، لا سيما مع التقلبات في أسعار الغذاء والطاقة. وهذا يفتح الباب للنقاش حول ضرورة تنسيق السياسات النقدية والضريبية بين الدول الأعضاء، بل وربما استئناف النقاش حول إطلاق عملة خليجية موحدة، وهو مشروع استراتيجي طال انتظاره، ويمكن أن يرسّخ الاستقرار النقدي ويقلل الاعتماد على العملات الأجنبية.

تأخر بعض مشاريع الربط، مثل السكك الحديدية الخليجية، وتباين السياسات المالية والجمركية، يظل من العوائق الهيكلية التي يجب التعامل معها خلال المرحلة المقبلة. ومع ذلك، فإن السياق الدولي الجديد، وما يشهده من تصاعد للحمائية الاقتصادية، وانقسامات جيوسياسية، يعزّز أهمية التكامل الخليجي كضرورة، وليس خياراً تنموياً فحسب.

يمثّل عام 2025 لحظة فارقة في مسيرة التكامل الخليجي، إذ انتقل من مرحلة التنسيق إلى مرحلة التطبيق، ومن الطموح النظري إلى تحديد أولويات التنفيذ. وإذا ما استمرت هذه الدينامية التصاعدية، فإن دول الخليج تقف بالفعل على أعتاب اتحاد اقتصادي فعلي يعزّز مكانتها الدولية، ويرفع من جودة حياة مواطنيها، ويجعلها شريكاً لا غنى عنه في صياغة مستقبل الاقتصاد العالمي المتغيّر.

تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.