في الوقت الذي يتجه فيه العالم للبحث عن بدائل صحية ومنعشة لمواجهة حرارة الصيف، يبرز مشروب «العيران» التركي كلاعب غير متوقّع في معادلة الاقتصاد الغذائي، و في بلدٍ تشهد فيه درجات الحرارة صيفاً ارتفاعاً حاداً يفوق 40 درجة مئوية، بات كوب من العيران يروي العطش.. ويحرك الاقتصاد أيضاً.
ماذا يوجد في رشفة واحدة؟
فمن كونه وصفة تراثية بسيطة، مزيج بارد من الزبادي والماء والملح، أصبح هذا المشروب ركيزة في صناعة الألبان التركية بقيمة تجارية متصاعدة، ويتحول تدريجياً إلى أحد رموز الصادرات الغذائية في البلاد.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
يعتبر منتجاً منخفض التكلفة وذا هامش ربح مرتفع، مدفوعاً بمدخلات الألبان المحلية، كما أنه منتج أساسي في جميع أنحاء تركيا، الحضرية والريفية، إذ يستهلكه أكثر من 85 في المئة من الأسر التركية أسبوعياً، وفقاً لمعهد الإحصاء التركي (TÜİK). ويشتري أكثر من 70 في المئة من المستهلكين الأتراك العيران أسبوعياً على الأقل.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
ومن هنا تُطرح تساؤلات حول فرص التوسّع العالمي لمشروبات صحية ذات طابع تقليدي، ومدى إمكانية ربطها بالسياحة الغذائية والطلب العالمي المتزايد على المنتجات المرتبطة بالهوية الثقافية.
الطلب الخارجي.. صادرات بنكهة محلية
العيران ليس فقط منتجاً غذائياً موروثاً من التاريخ الأناضولي والآسيوي الوسيط، بل أصبح اليوم جزءاً من سلسلة اقتصادية مكتملة الحلقات، تبدأ من المزارع الصغيرة وتنتهي بالمتاجر العالمية والمطاعم السريعة.
تجاوزت قيمة صادرات الألبان التركية 4.2 مليون لتر في 2023، مدعومة بمشتقات الزبادي مثل العيران، وفق بيانات وزارة التجارة التركية.
توسّعت أكبر الشركات المصنعة للعيران مثل «بينار» و«سوتاش» بإنتاجها لتغطي أسواق الخليج وأوروبا الشرقية، يُصدر العيران المعبأ اليوم إلى أكثر من 30 دولة، ويُتوقع أن تزداد صادرات العيران بفضل تصنيفه كمشروب «بروبيوتيك طبيعي»، ما يجعله مقبولاً في أنظمة الغذاء الصحية والمتخصصة.
قطاع بأبعاد متعددة.. من الصحة إلى النمو الاقتصادي
لا يقتصر نجاح العيران على الأسواق الخارجية؛ ففي الداخل التركي، ارتفع الطلب المحلي على العيران بنسبة تقترب من 20-30 في المئة خلال أشهر الصيف، خاصة في المناطق الجنوبية والساحلية، بناءً على تعاونيات الألبان.
ووفقاً لبيانات هيئة الإحصاء التركية (TÜİK) واتحاد منتجي الألبان في تركيا (TSÜMB)، فقد بلغ حجم سوق العيران المحلية عام 2023، أكثر من 1.05 مليار لتر من العيران تم إنتاجها محلياً بقيمة سوقية إجمالية تجاوزت 29 مليار ليرة تركية (نحو 890 مليون دولار أميركي بسعر صرف عام 2023). وتصل نسبة النمو السنوي في المبيعات إلى 5.7 في المئة رغم ارتفاع أسعار الأعلاف والطاقة.
يُعزى ذلك إلى فوائده الصحية، إذ يساعد في تعويض المعادن المفقودة بسبب التعرق، ويُعتبر بديلاً صحياً للمشروبات الغازية، يُباع من العيران أكثر من مليار لتر سنوياً بأشكال مختلفة (مفتوح، مغلق، حرفي، وصناعي).
تفوق العيران على المشروبات الغازية في بعض المناطق الريفية بنسبة استهلاك تصل إلى 2.4 مرة، وفقاً لنيلسن تركيا في 2023.
العيران والصناعات المرتبطة.. من الألبان إلى التوظيف
وبالنظر لسلسلة القيمة، تبدأ من مزارع الألبان المحلية، مروراً بعمليات التخمر والتعبئة، وصولاً إلى قطاع التجزئة الحديث ومنافذ الشارع التقليدية مثل الأكشاك والمطاعم الشعبية.
يُمثّل العيران حالة مثالية للتصنيع الزراعي الناجح، إذ يتم تحويل منتج أولي (اللبن) إلى منتج نهائي ذي قيمة مضافة أعلى، ما يخلق وظائف ويحفز الابتكار في قطاع الألبان.
يُحافظ إنتاج العيران على الطلب على الحليب والزبادي المنتجين محلياً، وخاصةً من مزارع الألبان الصغيرة، إذ يمثّل قرابة 15 في المئة من إجمالي مشتقات الحليب المبيعة في الأسواق التركية.
يُعد قطاع الألبان التركي من بين أكثر القطاعات الزراعية توظيفاً في البلاد، ويقدّر عدد العاملين فيه بنحو 130 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وأكثر من 1.1 مليون بقرة حلوب تُستخدم في الإنتاج المحلي.
تساعد إلكتروليتاته (الصوديوم والبوتاسيوم) على تعويض المعادن المفقودة في درجات الحرارة العالية، وهي ميزة في ظل مواجهة تركيا لارتفاع درجات الحرارة في الصيف.
أداة مقاومة للتضخم؟
وفي تقرير مشترك بين وزارة الزراعة التركية واتحاد المصدرين الزراعيين في 2024، أُشير إلى أن العيران يُستخدم كنموذج لتثبيت الأسعار في قطاع الألبان، إذ إن تكلفته المنخفضة وسهولة إنتاجه تجعلان منه أداة دفاعية ضد التضخم الغذائي.
في ظل تزايد معدلات التضخم الغذائي في تركيا، التي بلغت 67.9 في المئة في نهاية 2023، حسب البنك المركزي التركي، أصبح العيران بديلاً مستداماً للمستهلك، كون بساطة مكوناته، لا يتأثر كثيراً بأسعار الاستيراد أو تقلبات أسعار الصرف. يُباع بسعر يتراوح بين 8 – 14 ليرة للكوب في المحلات الشعبية، و3.5 – 6 ليرات لعبوة مغلقة من المتاجر.
أعمال تجارية ضخمة محتملة على مائدة العشاء .. الفرصة العالمية الضائعة
هناك سلاسل المطاعم العالمية، مثل برجر كنج، تُقدّم العيران في قوائم الطعام التركية، وهو تكيّف نادر مدفوع بالطلب المحلي، يُذكر أن 90 في المئة من «الأكشاك» ومطاعم الوجبات السريعة المحلية في تركيا تعرض العيران ضمن قائمة مشروباتها اليومية.
ووفقاً لنيلسن تركيا في 2024، يُعدّ العيران المشروب الأول المبيع إلى جانب الوجبات السريعة في سلاسل المطاعم المحلية، مُتفوّقاً على المشروبات الغازية في الأسواق الريفية والحضرية.
تقول مستشارة التجزئة، أيلين دميرتاش، «حلّ العيران محلّ الكولا في معظم أنحاء شرق الأناضول ووسط تركيا كمشروب أساسي في الوجبات».
في الأسواق ذات الكثافة السكانية العالية من المغتربين مثل ألمانيا وفرنسا والإمارات العربية المتحدة، نمت مبيعات العيران بنسبة 15 في المئة على أساس سنوي، ما يشير إلى وجود طلب كامن.
كوب من العيران والنعناع المنعش (شترستوك)
من منظور الاقتصاد السلوكي، يُمكن تفسير شعبية العيران صيفاً من خلال مفاهيم مثل «التحفيز السياقي» (contextual triggers) و«الطلب المشروط بالطقس»، فالعوامل المناخية الحارّة تدفع المستهلكين تلقائياً لاختيار منتجات صحية وباردة، وهنا تبرز المنتجات التقليدية ذات الطابع المحلي.
كما أنه في ظل العولمة، يزداد الطلب على المنتجات ذات «الهوية المحلية»، والتي تمثل ثقافة وقصة، وهو ما يُعرف بـ«اقتصاد الهوية»، باختصار، ربما لا تزال نكهات العيران غريبة على الأسواق العالمية، لكن أرقامه المحلية تثبت أنه ليس مجرد تراث... بل منتجاً استراتيجياً يتذوقه الاقتصاد التركي كل يوم.