أن يصبح النفَس الداخل والخارج لجسدك مأساة تفكر بها يومياً، تفكر في موعد اللحظة التي تهب عليك رائحة الكيماويات النفاذة من الشركات المقابلة لمنزلك والتي ستقطع أنفاسك حد الإغماء، هذه هي حال سكان خليج أبو قير بمدينة الإسكندرية المصرية، حيث يتوارث الأطفال أجهزة التنفس.

يمكن أن يكون خليج أبو قير فرصة واعدة للسياحة والمشاريع الاقتصادية بسبب تاريخ المنطقة الأثري والموارد الطبيعية، والموانئ، لكنه يتعرض للتلوث البحري والهوائي عبر بعض الشركات والمصانع المطلة عليه وفقاً لبحث «إنشاء وجهة سياحية من خلال التنمية المستدامة لمنطقة أبو قير».

يقع خليج أبو قير على بعد 35 كيلومتراً شرقي مدينة الإسكندرية، ويُستخدم لمختلف الأنشطة البشرية، بما في ذلك السباحة والشحن والصيد التجاري، والخليج أحد أهم الموائل الطبيعية للكائنات البحرية، فضلاً عن كونه أحد أكثر مناطق الصيد إنتاجية.

ويعاني خليج أبو قير التلوث البيئي والبحري والهوائي جراء إلقاء العديد من الشركات مخلفاتها الصناعية في البحر وأدخنتها في الهواء، ما يهدد الحياة البحرية في الخليج، ويؤثر على صحة السكان والصيادين، بالمخالفة لقانون البيئة المصرية رقم 4 لسنة 1994.

ويتمثل التلوث البيئي في أربع فئات رئيسية من النفايات الصناعية، هي: معالجة الأغذية والتعليب، وصناعة الورق، وصناعة الأسمدة والبتروكيماويات، وصناعة النسيج، وتكون نفايات هذه الصناعات إما ذات طبيعة عضوية أو غير عضوية وتضخها الشركات إلى البحر من خلال محطة ضخ الطابية وغيرها، وفقاً لعدة أبحاث علمية، ويوجد 29 منشأة صناعية في محيط خليج أبو قير، وفقاً لوزارة البيئة.

في هذا التحقيق، وثَّقنا عشرين حالة من سكان الخليج فضلاً عن الصيادين ممن تعرضوا لأمراض مزمنة جرَّاء التلوث الهوائي والبحري، أصغر هذه الحالات لطفل يبلغ 7 أشهر فقط، في أربع قرى هي: حوض تسعة، والحاج محمد، ورسلان، ومنطقة الطابية.

تقول نورا حسن، مسؤولة الاستبيانات الميدانية بمعهد علوم البحار بالإسكندرية، إن سكان هذه المناطق هم الأكثر تضرراً جرَّاء التلوث الناتج عن الصناعة في الخليج، ويعانون أمراضاً مزمنة متوارثة منذ سنوات، حتى إن الكثير منهم يهجرون بيوتهم جرَّاء التلوث.

إرث المرض

أخرجت مها -أم في الثلاثين من عمرها- من «دولابها» إرثاً تتوارثه العائلات في عزبة حوض تسعة بأبو قير، لم يكن الإرث أموالاً أو عقاراً بل هو جهاز تنفس متهالك تتوارثه الأسر في القرية لعمل جلسات تنفس للأطفال الذين يعانون حساسية الصدر المزمنة.

منار الطفلة ذات الثماني سنوات أصيبت بالمرض المتوارث في القرية، فزيارة مستشفى أبو قير التي تبعد نحو ساعة عن القرية باتت رحلة يومية حتمية بسبب جلسات التنفس، وتحتاج منار لجلسة مدتها عشر دقائق كل ثلاث إلى ست ساعات بمعدل جلستين إلى ثلاث يومياً.

لا مفر من التلوث الهوائي الذي تعانيه منار، فحتى المدارس الابتدائية التي يرتادها الأطفال ملاصقة لشركة السماد الكبرى.

ولا يستطيع السكان تحمل الرائحة الكريهة التي تهب على القرية كل عدة ساعات، وهي خليط من مادة الأمونيا الناتجة عن صناعة السماد، وروائح أخرى ناتجة عن الصناعات الزراعية وصناعات الأدوية.

وأثناء زيارتنا للقرية، هبت علينا رائحة لم نستطع بسببها التنفس قرابة ربع ساعة، فيكفيك أن تقضي يوماً واحداً في هذه القرى لتشعر بضيق تنفس سيستمر معك لأيام.

جهاز التنفس المتهالك

منطقة على صفيح ساخن

في أوائل منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ الخليج يشهد كميات كبيرة من التصريفات الزراعية والصناعية ومياه الصرف الصحي، ومنذ ذلك الحين أثرت المصادر المختلفة لتصريف الأراضي على خصائص هذا الخليج، وفقاً لبحث نشر في 2013 في المجلة المصرية للبحوث المائية.

وحدد البنك الدولي منطقتين ساخنتين في مصر هما الأكثر ضعفاً بيئياً (خليج المكس وبحيرة مريوط) و(خليج أبو قير)، وحصل المكس على منحة للإصلاح نُفذت منذ بداية عام 2010، ولكن لم يحظَ خليج أبو قير بالاهتمام نفسه.

ويقول دكتور صلاح سليمان الخبير الدولي في شؤون البيئة إن من ضمن الأسباب هو اتجاه الرياح في خليج المكس الذي ينقل الانبعاثات الضارة من المنطقة إلى باقي المناطق في مصر.

ويشير بحث في «المجلة الهندسية» بالإسكندرية إلى أن منطقة دلتا النيل هي أكثر المواقع عرضة للمخاطر في مصر وواحدة من أكثر المناطق عرضة للخطر في العالم، وأن منطقة أبو قير هي أكثر المواقع عرضة لمخاطر ارتفاع منسوب مياه البحر في دلتا النيل وفي مصر.

وتضع الشركات الملوثة للبيئة عبئاً اقتصادياً على الدولة، إذ يشير «البنك الدولي» في تقرير له عام 2022 إلى أن التكلفة البشرية والاقتصادية لتلوث الهواء وتدهور البحار والسواحل هائلة، تقدر بأكثر من 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في مصر، كما يبلغ متوسط التكلفة السنوية للتلوث البحري نحو 0.8% من إجمالي الناتج المحلي في الشرق الأوسط.

معادن ثقيلة سامة

حلل الباحثون بمجلة «نشرة التلوث البحري» في عام 2022 نحو 99 موقعاً على طول البحر الأبيض المتوسط في مصر، وأوضحت الدراسة أن خليج أبو قير ضمن أكثر أربعة مواقع ذات التلوث الأكبر والأخطر.

وأظهر بحث أجراه «المعهد القومي لعلوم المحيطات والمصايد» نشر في 2021، (تقييم التلوث بالمعادن الثقيلة في مياه البحر والرواسب في خليج أبو قير) أن مياه الخليج والرواسب في الشاطئ ملوثة بالمعادن الثقيلة، وذلك بعد تحليل عينات من سبع مناطق هي الأكثر تلوثاً نتيجة الصرف الصناعي والزراعي على طول الخليج.

والسبب في أن المعادن الثقيلة سامة جداً هو قدرتها على التأكسد أو التحلل بسهولة، وتلحق أضراراً بالغة بالبيئة البحرية، ويتعرض النظام البيئي البحري للتهديد من خلال تصريف النفايات السائلة الصناعية التي تؤثر على استدامة الكائنات الحية وبالتالي الصحة العامة.

اطلعنا على عشرات الأبحاث العلمية التي تناولت تلوث الخليج بالمعادن الثقيلة، كان أحدثها في مجلة «السيفير» العلمية في فبراير شباط 2023، بعنوان (تقييم المخاطر البيئية والبشرية للمعادن الثقيلة على ساحل أبو قير على البحر الأبيض المتوسط في مصر باستخدام نظم المعلومات الجغرافية)، ويشير إلى وجود معادن ثقيلة في الخليج ولها بعض التأثيرات السرطانية على الأطفال بسبب زيادة معدن الكادميوم على الحد المسموح به، كما كانت تركيزات المعادن في تصريف نفايات حفر النفط والغاز عالية وتؤثر على الرواسب المحيطة في البيئة البحرية.

ويشير البحث إلى أن هذه التقنية تساعد على تسليط الضوء على المناطق الساخنة الملوثة الناتجة عن الأنشطة الصناعية مثل المعادن والأسمدة والبترول والكهرباء والأنشطة الزراعية

بحث آخر نُشر في «المجلة المصرية للبحوث المائية» في يناير كانون الثاني 2023، يقول إن هناك ثلاثة مصادر برية مسببة للتلوث نتيجة مياه النفايات الصناعية والزراعية والصرف من ثلاثة مصبات رئيسية، هي محطة ضخ الطابية وبحيرة إدكو عبر قناة المعدية ومصب فرع رشيد.

ويقول الدكتور محمد الألفي بالمعهد الوطني لعلوم المحيطات ومصايد الأسماك بالإسكندرية والمشارك في البحث إنهم حللوا المعادن الثقيلة وتركيزها بسبعة مواقع بالخليج، وأكد أن بعض التركيزات لهذه المعادن زاد على ذي قبل وبعضها انخفض، وأضاف أنهم رصدوا عنصر الزئبق في المناطق الساحلية، والذي عادة ما يكون ناتجاً عن المخلفات الزراعية والصناعات الكهربائية، أما عنصر الكادميوم فيكون نتيجة المخلفات الزراعية والمخصبات، ولوحظ وجود تركيزات عنصر الزئبق بالمواقع القريبة من الأنشطة الزراعية وموقع بحيرة إدكو (منطقة المعدية).

وعند سؤاله عن اختلاف نتائج نسب المعادن الثقيلة الناتجة في آخر بحث له مقارنة بالبحث الذي شارك فيه في 2013، قال إن هناك نسب معادن ارتفعت وأخرى انخفضت، ولكن لا يوجد تغيير كبير.

تواصلنا مع المكتب الإعلامي لوزارة البيئة المصرية، وقالت وزيرة البيئة ياسمين فؤاد في رد رسمي على أسئلة من «CNN الاقتصادية إن الوزارة أنشأت برنامجاً ممتداً منذ عام 1998 لمراقبة جودة مياه البحرين المتوسط والأحمر يشمل المتغيرات الفيزيائية والكيميائية، فضلاً عن مؤشر لجودة المياه سنوياً لتتبع الحالة البيئية، وأضافت «لا ننكر أنها كانت في فترة من الفترات في حالة غير جيدة في بعض المناطق بالبحر المتوسط، ولكن برنامج الرصد والمراقبة البيئية أوضح وجود تحسن ملحوظ بالتوازي مع برامج المكافحة التي ننفذها في العديد من المنشآت على ساحل البحر المتوسط وخاصة منطقة أبو قير».

مخاطر على الرئة والنمو

منار ليست الطفلة الوحيدة المريضة بحساسية الصدر، فقد قابلنا عائلة مصاب فيها الجدود وحتى الأجنة، أمين سائق يبلغ من العمر 32 عاماً تعاني عائلته كلها من أمراض مزمنة، إذ تعاني والدته وأخته وابنتاه وحتى الطفل البالغ سبعة أشهر من أمراض خطيرة.

رجاء والدة أمين تبلغ من العمر 48 عاماً، بدأت تعاني نوبات حساسية الصدر، وهي في العشرين من عمرها، وهي الآن مصابة بداء السكري والضغط والقلب فضلاً عن ثلاث عمليات بتر في ساقها اليمنى.

تحكي رجاء أنه أثناء هبوب رائحة الكيماويات، تهرع الأسرة لإغلاق الأبواب والمنافذ ووضع قطع قماش على وجوههم، وكثيراً ما يفقدون الوعي جراء الرائحة النفاذة.

الوضع تغير الآن، إذ بدأت الأمراض الصدرية تظهر في الأجيال الصغيرة، فتقول سارة زوجة أمين إن ابنهما الصغير أحمد الذي يبلغ من العمر 18 شهراً يعاني تضخماً في الرئة منذ كان جنيناً، ويدخل في غيبوبة كاملة بعد هبوب رائحة الأمونيا المنبعثة من مصنع الأسمدة.

وتهرع به إلى مستشفيات الرعاية التي تبعد نحو 18 كيلومتراً (نحو ساعتين) عن بيتها لأن مراكز الصحة التي بجانبها لا تقبل هذه الحالات، فكان عمر الصغير يمكث في المستشفى أسبوعين كل شهر في عامه الأول.

يجب ألّا يتجاوز متوسط التعرض على مدار 24 ساعة 15 ميكروغرام/م 3 من الجزيئات الدقيقة المسببة للأمراض المزمنة أكثر من 3 إلى 4 أيام في السنة، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.

بينما يتعرض سكان أبو قير لمتوسط 40 ميكروغرام/ م3 سنوياً، أما بالنسبة للمعدل اليومي فيصل إلى ذروته تقريباً إلى 80 ميكروغرام عند الساعة الثالثة عصراً، لتنخفض النسبة ليلاً، وفقاً لتطبيق «بلمي لاب» المتخصص في قياس جودة الهواء.

وتؤثر المعادن الثقيلة الأكثر خطورة وهي الزرنيخ والكادميوم والكروم والنحاس والنيكل والرصاص والزئبق على البيئة وصحة الإنسان وتعرضه للأمراض المزمنة وفقاً للأمم المتحدة للبيئة؛ فيمكن أن يضر التعرض للزئبق الدماغ والقلب والكلى والرئتين والجهاز المناعي للأشخاص من جميع الأعمار، ويمكن أن يتأثر الجهاز العصبي للأطفال ما يجعل الطفل أقل قدرة على التفكير والتعلم.

ويؤدي التعرض إلى الرصاص إلى تأثيرات النمو العصبي عند الأطفال، حتى في مستويات منخفضة من التعرض، وتشمل التأثيرات الأخرى آثار القلب والأوعية الدموية، والكلى، والجهاز الهضمي، ويمكن أن يسبب الكادميوم تهيجاً رئوياً وأمراض الكلى وضعفاً في العظام وربما سرطان الرئة والبروستاتا والكلى.

وتشير تقديرات الإدارة الوطنية لعلوم المحيطات والغلاف الجوي الأميركي للمعادن الثقيلة إلى أن الكادميوم والرصاص هما الملوثان الأكثر احتمالاً للتسبب في آثار بيولوجية ضارة في خليج أبو قير، وفقاً لبحث مصري نشر في المجلة العلمية «علوم الأرض البيئية».

فبدلاً من أن يقتني الطفل الرضيع أحمد لعبة يهديها لغيره، كان لديه جهاز تنفس صغير تبرع به شخص للأسرة، إذ كان يحتاج إلى جلسات دورية يومياً، لكن بعد تحسن حالته، وانخفاض عدد الجلسات التي يحتاج إليها وإمكانية الذهاب إلى مركز الصحة بالجوار، تبرعت به الأم لطفل حديث الولادة في حالة حرجة أيضاً، وقالت «في ناس تحتاجه أكثر مني» ليصبح هذا هو الإرث الذي يتوارثه الأطفال من بعضهم في هذه القرى.

تقول شقيقة أمين إن طفلتها نغم مصابة ببؤرة كهربائية في القلب نتيجة التعرض للتلوث المفرط، فبيوتهم قريبة من مصادر التلوث، وأكملت أن طفلتها ممنوعة من التعرض لأي نوع من التلوث ولكن ما باليد حيلة.

وحاول سكان القرى وخاصة بمنطقة الطابية تقديم العديد من الشكاوى، منهم أشرف عبدالسلام الذى كان يجمع الشكاوى من الأهالي بعد بتر قدمه جراء الأمراض العديدة التي أصيب بها بسبب التلوث الصناعي لكن دون جدوى.. ووعدت مي محمود، وهي نائبة البرلمان في 2019 أن تتوجه وفريق عمل إلى منطقة الطابية، لفحص شكاوى الأهالي بوجود تلوث بمياه البحر بالمنطقة، وقد تبين تلوث مياه البحر بالمنطقة وتغير لونها إلى الأسود بسبب انتشار المخلفات به لكن لا شيء تغير حين زرنا المنطقة هذا العام.

في حالة زيادة معدلات تركيز الزئبق على 0.71 (ميكروجرام/الجرام) فإن تأثيره على البيئة خطير جداً، بينما إذا سجل الكادميوم 1.2 فإن تأثيره منخفض، و9.6 تأثير متوسط وفقاً للحد الأدنى لتقديرات الإدارة الوطنية لعلوم المحيطات والغلاف الجوي الأميركي للمعادن الثقيلة.

وارتفعت نسبة الزئبق في أغلب الخليج بنسبة 21.83 عند مصب رشيد، و0.85 عند منطقة المعدية، بينما سجلت نسبة الكادميوم 2.10 عند منطقة ما قبل المعدية، وبنسبة 1.89 في منطقة النشاط البترولي.

تلوث حراري وعضوي

لم يقتصر التلوث الذي تتعرض له البيئة البحرية في الخليج على المعادن الثقيلة، فيشير بحث بعنوان (الكشف عن التلوث الحراري في خليج أبو قير) إلى تصريف كمية كبيرة من مياه التبريد ذات درجة الحرارة العالية ما يؤدي إلى التلوث الحراري، وتبين بعد قياس درجة حرارة سطح البحر في نقطتين زمنيتين لاحقتين (قبل وبعد تشغيل الشركات الصناعية الكبرى مثل محطة أبو قير للطاقة الكهربائية وشركة ويبكو) أن العديد من هذه الأنشطة الصناعية تصرف كمية كبيرة من مياه التبريد ذات درجة الحرارة العالية ما يؤدي إلى التلوث الحراري في خليج أبو قير.

ووفقاً لبحث الدكتور محمد عطية، أستاذ الكيمياء البحرية بالمعهد الوطني لعلوم المحيطات والمصايد وزملائه، فإن كميات المواد العضوية المؤكسدة لمياه البحر ومياه الصرف الصحي كانت مرتفعة، ما يعكس الكميات الكبيرة من المواد العضوية الملقاة عبر مصرف أبو قير من الشركات الصناعية المختلفة.

الكائنات البحرية في خطر

ويشير بحث في «نشرة تلوث البحر» إلى وجود الديوكسينات وهي الملوثات العضوية الثابتة صعبة التحلل في أنواع بعض السمك مثل الدنيس والأوراتوس والقاروص وغيرها في منطقة خليج أبو قير، وتبين وجود نسبة كبيرة من الديوكسينات في البروتين السمكي.

التعرض لتلك الديوكسينات على المدى الطويل يؤدي إلى حدوث اختلال في الجهاز المناعي والجهاز الصماوي وعرقلة تطوّر الجهاز العصبي والوظائف الإنجابية، وتنجم الديوكسينات أساساً عن منتجات العمليات الصناعية، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.

وتقول بدور أسامة، وهي أستاذة في «مركز الدراسات البيئية» بجامعة الإسكندرية، إنه رغم تحسن الوضع قليلا عن ذي قبل، فإن نسبة التلوث أدت إلى تغيير مسار التجمعات السمكية، فضلاً عن التنوع البيولوجي للأسماك، فأصبح هناك نوع واحد من الأسماك ذكوراً أو إناثاً، كما لعب هذا التلوث دوراً في درجة حرارة وملوحة المنطقة ما أدى إلى تغيير موطن الأسماك واختفاء بعض الأنواع الكثيرة.

ويقول أحمد رضوان، الأستاذ في «معهد علوم البحار» بالإسكندرية والمشارك في أبحاث عن تلوث الخليج، إن هناك بعض أنواع الأسماك التي تأثرت بالتلوث نتيجة كثرة وجودها في الخليج، وهي الأنواع الأكثر انتشاراً في غذاء المصريين مثل السمك البلطي والبوري والمبروك، وأشار إلى أن أكثر المواقع المصابة أسماكها بالتلوث هي منطقة المعدية عند بحيرة إدكو.

تلوث في دماء الصيادين

كشف بحث نشر في «المجلة العلمية للصحة والتلوث» عن تأثير المعادن التي تلوث الخليج على 50 من قاطني منطقة المعدية منهم 40 صياداً محترفاً تتراوح أعمارهم بين 20 و55 عاماً، وبقياس مستوى المعادن الثقيلة الخطيرة مثل (الكادميوم والرصاص والكروم والنحاس والزنك) وغيرها من فحوصات الدم، تبين أن مستوى الرصاص والكادميوم في الدم لدى الصيادين أعلى من الأشخاص العاديين قاطني المنطقة.

وأشار البحث إلى تراكم المعادن الثقيلة في مكونات النظام البيئي (مثل الهواء والتربة والماء)، ويزداد خطر التعرض البشري بين العمال الصناعيين والأشخاص الذين يعيشون بالقرب من المناطق الملوثة.

وتسبب هذه المعادن الثقيلة في الدم إجهاداً تأكسدياً شديداً يتجلى في وجود مستويات مرتفعة من مادة المالونديالديهيد التي تسبب الالتهابات، وانخفاضاً كبيراً في مضادات الأكسدة.

وتؤثر المعادن الثقيلة سلباً على مجموعة متنوعة من أجهزة الجسم للصيادين مثل القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي والغدد الصماء والمناعة والجهاز التناسلي، بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي التعرض طويل الأمد وتراكم المعادن الثقيلة في الجسم إلى اضطراب جينات الإجهاد التأكسدي وبالتالي زيادة القابلية للإصابة بأمراض مزمنة.

حقائق بحسب وزارة البيئة

في أكتوبر تشرين الأول 2011، وضمن مشروع تقييم الأثر البيئي والاجتماعي لتنفيذ مشروع الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية بالإسكندرية، تزايدت معدلات التلوث البيئي في مياه البحر والأراضي الزراعية والهواء في الإسكندرية، بسبب المئات من الشركات والمصانع المنتشرة الحكومية والخاصة، وذكرت وزارة البيئة العديد من أسماء الشركات والمصانع الملوثة للبحر والهواء.

وتابعت الوزارة أن بعض الشركات تُلقي مخلفاتها الصلبة والسائلة في خليج أبو قير بطريقة غير مباشرة عن طريق مصرف العامية ومعظمها شركات نسيج، وصباغة وكيماويات.

وقالت وزارة البيئة لـ«CNN الاقتصادية» إن «عدد الشركات التي لا تُصرِّف على الخليج 19 من 29 شركة، بينما تُصرِّف ثماني شركات على مصرف العامية وبالتالي لا يوجد صرف مباشر على الخليج إلّا من شركة أبو قير للأسمدة التي نتعامل معها عبر اتباع منظومة حديثة للتحكم».

عبر زيارتنا الميدانية وتصويرنا مصرف العامية فضلاً عن خرائط «جوجل إيرث»، تبين أن مصرف العامية يصب مباشرة على الخليج، كما وثق العديد من الباحثين للمنطقة صرفاً مباشراً من مزارع سمكية ومصارف زراعية على الخليج.

وأشارت الوزارة إلى أن «الجهود المبذولة أثمرت توقف شركات كشركة راكتا والأهلية للورق والغزل والنسيج بصباغي البيضا» ولكن تبين أن شركة «راكتا» توقفت بسبب الخسائر المالية المتراكمة في السنوات الأخيرة، وفقاً للأخبار المحلية.

وأشارت وزارة البيئة في تقرير حالة البيئة في عام 2022 إلى أنها تُجري حملات تفتيش على عدة مناطق، ومن ضمنها خليج أبو قير- محافظة الإسكندرية والبحيرة.

ووعدت ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة، في تصريحات صحفية لها بأنه بحلول شهر يونيو حزيران 2022 ستنتهي أزمة الصرف الصناعي لخليج أبو قير، إذ جرى معالجة مشكلة التلوث بالأمونيا الناتج عن شركة أبو قير للأسمدة، كما دعمت الوزارة عدداً من الشركات من خلال مشروع التحكم في التلوث الصناعي بواسطة قروض ميسرة ومنح.

ولكن أثناء زيارة لمنطقة الطابية والقرى المجاورة لها في مارس آذار 2023، لم تنتهِ أزمة التلوث بالأمونيا.

وأشارت وزارة البيئة إلى أن القانون المصري نظم المعايير الخاصة بالانبعاثات للصناعات المختلفة وعلى رأسها صناعة الأسمدة، وأُجري تعديل شامل في عام 2011 للائحة القانون لمطابقته المعايير الدولية، وألزمت الوزارة شركة أبو قير بوضع أجهزة رصد مستمر داخل محيط الشركة لمراقبة تركيز الأمونيا للتأكد من عدم وجود تسريبات تتجاوز الحد المسموح.

وتقول وزارة البيئة إنها تعمل مع الشركات على خفض معدلات التلوث الصناعي الملقى في البحر، ولكن للآن غير مسموح لأحد -حتى الباحثين- بمتابعة أو تصوير أي من مناطق صرف الشركات العملاقة، فلم نتمكن من زيارة هذه المصارف أو دخول شركة «أبو قير» أثناء زيارتنا الميدانية.

ويقول أحد الباحثين بمعهد علوم البحار -طلب عدم نشر اسمه- إن هناك صعوبات في تصوير مواسير الصرف التي تصب في شواطئ الخليج، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أحد دخول المصانع أيضاً.

خطوات على الطريق

تسعى وزارة البيئة أيضاً لتحقيق بعض الخطوات لتصحيح الأوضاع، وقالت الوزارة إنها أسهمت في تنفيذ مشروع إنشاء محطة معالجة مياه الصرف الصناعي واسترجاع 85 في المئة من المياه المعالجة لإعادة الاستخدام في ري الأشجار والمسطحات الخضراء لتقليل أحمال التلوث للأمونيا والنيتروجين الكلي لتحقيق التوافق التام مع اللائحة التنفيذية للقانون رقم 4 لسنة 1994 والمعدل بقانون 9 لسنة 2009 والخاص بالصرف على البحار والمسطحات المائية المالحة بتكلفة 24 مليون يورو بتمويل من برنامج التحكم في التلوث الصناعي التابع للوزارة بنحو 16 مليون يورو.

كما أسهمت الوزارة في تمويل مشروع إنشاء محطة معالجة مياه الصرف الصناعي لشركة المعمورة للورق، وتعتمد على إعادة استرجاع المواد الخام ومياه الصرف، وكذلك تنفيذ محطة المعالجة البيولوجية لشركة قها للأغذية.

أطفال ما زالوا يعانون

ما زال أطفال قرى أبو قير يولدون دون رئة مكتملة، وبتضخم في الرئة، الأمر الذي يؤدي إلى حساسية صدر مزمنة، أطفال يحملون إرثاً من المرض مقابل مكاسب شركات عملاقة، وتأثير سلبي على الاقتصاد المصري لمكافحة آثار التلوث الصناعي والتغير المناخي ومعالجة المرضى.

ردت وزارة البيئة على سؤالنا عن الأوضاع الصحية الحرجة لسكان قرى أبو قير وخاصة الأطفال، بأنها «بصدد صدور اللائحة التنفيذية لقانون إدارة وتنظيم المخلفات كقانون ضابط لكل القطاعات، والذي نأمل في تفعيله بشكل كبير في المرحلة القادمة، كذلك تدعم الوزارة دور المسؤولية المجتمعية للمنشآت الكبرى للمجتمع المحيط بها ومتابعتها عبر التقارير الدورية المطلوبة من تلك الشركات».

ولم ترد الوزارة على سؤالنا عن الأبحاث العلمية المنشورة مؤخراً من مؤسسات بيئية بالإسكندرية تفيد بأن نسب بعض المعادن الثقيلة الخطيرة لم تتغير، كما لم ترد على بناء مدرستين للأطفال داخل مصنع أبو قير للأسمدة.

حاولنا التواصل مع شركة أبو قير عبر البريد الإلكتروني بموقع الشركة ولكن لا رد حتى نشر هذا التحقيق، كما تواصلنا مع المسؤول الإعلامي ابرام لاوندي بوزارة قطاع الأعمال العام، وهي المسؤولة عن شركات قطاع الأعمال العام في مصر، ولكنه أجاب بأن الوزارة غير منوط بها الرد نيابة عن الشركة.

* هذا التحقيق تم بالتعاون مع مؤسسة «جريد-أرندل» النرويجية