أبهرتنا الواجهة الباريسية الأنيقة لباكو عند قدومنا إلى هنا كفريق CNN الاقتصادية لتغطية مؤتمر الأطراف كوب 29، فأغلبنا لم تتشبع ذاكرته البصرية بمشاهد من باكو، فلا تنتشر صور أو مقاطع مصورة لها مثل صور باريس أو نيويورك أو دبي أو القاهرة.

الوجهات تشبه كثيراً مباني باريس الجديدة التي أنشأها المعماري الفرنسي أوسمان نهاية القرن التاسع عشر، لافتات الشوارع مستوحاة بشكل كبير من لوحات شوارع باريس حتى أكشاك الصحف منقولة من أكشاك صحف شارعي سان جيرمان دي بري وسان ميشيل جنوب نهر السين.



العمارة الباريسية في باكو (CNN الاقتصادية)
العمارة الباريسية في باكو (CNN الاقتصادية)

بدأت العمارة الباريسية بالانتشار في باكو في نهاية القرن التاسع عشر ويختلط في بعض مبانيها الطراز الإسلامي المُحدث، هذه القفزة العمرانية بدأت مع تعزيز باكو مكانتها في مشهد النفط العالمي إذ كانت ضمن أوائل دول العالم في اكتشاف النفط، وبلغ إنتاج شبه جزيرة أبشيرون (شرق البلاد) نحو نصف النفط العالمي في عام 1900.

ورأى القائد البلشفي الشهير فلاديمير لينين في نفط باكو ضرورة لاستمرار الدولة السوفييتية؛ فوقتها لم يكن النفط قد اكتشف بعد في الاتحاد السوفييتي وتوليد الطاقة من الذرة كان ربما مجرد فكرة في العقول.



وتمثل منتجات النفط 90 في المئة من صادرات أذربيجان، ونصف دخل الدولة وثلث الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية ووزارة الخارجية الأميركية، ومن هنا صنفت وكالة الطاقة الدولية أذربيجان كمنتج ومصدر «رئيسي» للغاز الطبيعي والنفط، إذ أنتجت 32.7 مليون طن من الخام و35 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في عام 2022، صدر أكثر من ثلثيها،
 كما أنها من بين أكبر 20 دولة مصدرة للنفط الخام والثانية عشرة في إنتاج الغاز، وفقاً لبيانات عام 2022.



وتتزين الحافلات المخصصة لنقل زوار كوب بعبارة «ياشيل دونيا» أي عالم أخضر، وهي حافلات من صنع شركة بي واي دي الصينية وجزء كبير منها يعمل بالكهرباء.

أحد مباني باكو (CNN الاقتصادية)
أحد مباني باكو (CNN الاقتصادية)

تتزاحم في طرق باكو بعض السيارات الكهربائية الحديثة وسيارات لادا ونيفا الروسية فضلاً عن السيارات الألمانية الفارهة، بينما تغيب عن «باكو» باريس آسيا الوسطى السيارات فرنسية الصنع بشكل لافت.

وتنتشر محطات الوقود التي تحمل شعار عملاق الطاقة الأذربيجاني سوكار، ويتراوح سعر كل لتر من البنزين بين 1.1 مانات و2 مانات (بين 65 سنتاً، ودولار و18 سنتاً)، وتتناثر كذلك محطات شحن السيارات الكهربائية على استحياء وطوال فترة وجودنا في باكو كانت جميعها شاغرة.

ويعد شعار يشيل دونيا أو عملية كوب بمثابة حملة دعاية تطلقها الدولة هنا لجذب سائحين جدد؛ فزاهر
(اسم مستعار بناء على طلبه) يقول ساخراً: ياشيل دونيا، في ظل وجود كل هؤلاء السائحين والتهام كل هذه الكميات من اللحوم، فالمطبخ الأذربيجاني مطوق بكل أنواع اللحوم الحمراء والخبز، وسط اختفاء الأرز وبعض البقوليات.

كلنا سائحون



تستقبل أذربيجان نحو مليوني سائح كل عام وهو ما يشكل نحو 25 في المئة من السكان الذين يتجاوز عددهم 8 ملايين نسمة حسب آخر إحصاء أجرته الدولة.

تزدحم مطاعم وبازارات باكو كل مساء بالآلاف الذين يعلقون على صدورهم تصاريح دخول مؤتمر الأطراف كوب 29 الذي تصدره الأمم المتحدة، هنا يطلق علينا سكان العاصمة الأذربيجانية «السائحون» أياً كان الهدف من مهمتنا سواء كان المفاوضات أو التغطية الصحفية أو حتى موظفي ومسؤولي المنظمات الأممية أو المسؤولين الحكوميين.

تطبيقات الترجمة

لا يتحدث الكثير من أهل باكو لغات إلى جانب الأذربيجانية، ولكنهم يستخدمون تطبيقات الترجمة على الهواتف من أجل التواصل معنا، وهي تفي بالغرض بشكل مقبول.


قامت الدولة بقبول نحو 3000 متطوعة ومتطوع لمساعدة زائري مؤتمر الأطراف أو «السائحين»، جميعهم يتحدث الإنجليزية ولغات أخرى، وينتشرون في جميع أنحاء المدينة.


نيرمين -(اسم مستعار بناء على رغبتها) حيث إنها ممنوعة كسائر زملائها من الحديث مع الصحافة- تقف على مدخل استاد باكو الأولمبي حيث ينعقد مؤتمر الأطراف وتصدح مكبرات الصوت بموسيقى هفت بيكر أو عناصر الجمال السبع وهي مقطوعة رومانسية ملحمية لحنها الموسيقار الأذري جارا جاراييف في منتصف القرن العشرين.

نرمين درست أحد «العلوم الطبية وتعلمت 4 لغات بناء على رغبة والدي كي تصبح حياتي أفضل».

أضافت نيرمين البالغة 22 عاماً أنها تطمح في تطبيق ما تعلمته وربما اختراع دواء ما يساعد البشر «كي يبقى اسمي مسجلاً حين تنتهي حياتي وألّا يكون مروري في الدنيا بلا نفع».

نيرمين رغم التحديات لا تتطلع إلى ترك باكو أو الهجرة لأوروبا أو الولايات المتحدة لاستكمال تعليمها أو الالتحاق بأحد المعامل البحثية في هذه الدول إذ إنها تحب باكو.

الحداثة في مباني أذربيجان (CNN الاقتصادية)
الحداثة في مباني أذربيجان (CNN الاقتصادية)

ياسامال الضاحية النابضة



تقع ياسامال في غرب باكو وتلتصق بالعاصمة، فلا يفرق بينهما سوى لافتة تعلن الخروج من باكو، ولكن ياسامال تستقبل كل ما لا تريد باكو ضمه في أحشائها أو إظهاره على وجهها الأنيق، هنا تختفي العمارة الباريسية والحدائق والتماثيل والنافورات، ويحل مكانها المباني الشاهقة بكل الألوان ولكنها تفتقد الروح الفنية، هي مباني الإسكان الاجتماعي التي بدأ الرئيس إلهام علييف بإنشائها في ما سمي ياساميل الجديدة، وهي التي أسهمت في زيادة شعبيته وسط الشباب.

عملياً تضج ياساميل الجديدة بسكان ينتمون للطبقة المتوسطة، فالشوارع تكتظ بسياراتهم ولا يترددون قبل الاستهلاك من المطاعم أو متاجر التجزئة، كما يغلب على سكانها أناقة الطبقة المتوسطة أو التكنوقراط.




أوشك كوب على نهايته أو ربما يمدد من أجل الوصول إلى اتفاق عنيد في باكو بشأن التمويل المناخي، إذ لم يتوصل إلى اتفاق حتى الآن.

وسواء مدد مؤتمر الأطراف أو تم التوصل لاتفاق في الموعد المحدد سلفاً، فما حدث في قاعات باكو وشوارعها لن يبقى حبيساً في باكو.