تخطط شركة «تي اس ام سي»، عملاقة تصنيع الرقائق وأشباه الموصلات، لإضافة أكثر من 6000 وظيفة هذا العام، على الرغم من التباطؤ العام في الطلب على الرقائق.
قد يبدو هذا للوهلة الأولى شيئاً مبشراً، فالأمر يتعلق بزيادة الموظفين بدلاً من موجات تسريح العاملين التي شهدتها عدة قطاعات، خاصةً القطاع التكنولوجي، مؤخراً، ولكنَّ لهذه القصة أبعاداً مختلفة وأوجهاً عدة.
إذ إن خطط «تي اس ام سي» (شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات) أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، لتشغيل هذا العدد الضخم، تأتي في خضم خطط أخرى للشركة، تشمل بناء مصنع جديد في ولاية أريزونا بالولايات المتحدة الأميركية في إطار سعي أميركا لتوطين صناعة الرقائق.
كيف بدأت القصة؟
وقع الرئيس الأميركي جو بايدن في الصيف الماضي على قانون «الرقائق والعلوم»، ويسمح هذا القانون للحكومة باستثمار أكثر من 200 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة في محاولة لمساعدة الولايات المتحدة على استعادة مكانتها الرائدة في تصنيع رقائق أشباه الموصلات، إذ تعتبر الرقائق عنصراً استراتيجياً في الصناعات التكنولوجية، فهي تستخدم في مختلف الصناعات الحديثة، من بينها السيارات والهواتف والأجهزة الطبية، فضلاً عن القدرات الدفاعية.
ووضعت وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو الشهر الماضي، الرؤية الطموحة لإدارة بايدن لتنفيذ قانون «الرقائق والعلوم» على مدى العقد المقبل، إذ يهدف القانون إلى مواجهة النفوذ الاقتصادي المتزايد للصين، وخفض تكلفة السلع، وجعل الولايات المتحدة أقل اعتماداً على التصنيع الأجنبي وتخفيف اضطرابات سلاسل التوريد، خاصةً بعد أن سلطت جائحة كوفيد-19 الضوء على ضعف سلاسل توريد أشباه الموصلات والمخاطر التي تشكلها على إنتاج المنتجات الحيوية مثل السيارات وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة المنزلية والسلع الأساسية الأخرى.
هدف آخر وراء إصدار هذا القانون، هو تعزيز الأمن الاقتصادي للبلاد، وحماية الأميركيين من موجات ارتفاع الأسعار الناجمة عن التحديات العالمية غير المتوقعة، فضلاً عن خلق مئات الآلاف من الوظائف ذات الأجر المرتفع بما يعود بالنفع على الأسر الأميركية.
وبدأت فوائد القانون تؤتي ثمارها، إذ ضُخت الاستثمارات في تصنيع أشباه الموصلات، وجرى تحفيز القطاع الخاص على استخدام رقائق أميركية الصنع، فضلاً عن تعليم وتدريب القوى العاملة في هذه الصناعة المستجدة في المجتمعات الأميركية.
وأعلنت «تي اس ام سي» عن استثمارها في مصنع أريزونا في مايو أيار 2020، وتعهدت وقتها بضخ استثمارات تبلغ 12 مليار دولار، ثم في ديسمبر كانون الأول زادت الشركة هذا المبلغ إلى 40 مليار دولار، مع وجود خطط لتحديث المصنع بتقنية متقدمة- إن لم تكن الأكثر تقدماً- لتصنيع الرقائق.
ومن المتوقع أن يبدأ المصنع في إنتاج الرقائق الدقيقة بحلول عام 2024، وقالت الشركة إنها ستضيف لاحقاً مصنعاً ثانياً إلى الموقع، إذ يهدف بايدن إلى استقطاب رواد الصناعة وجعل أريزونا بل والولايات المتحدة مركزاً استراتيجياً لتصنيع الرقائق وأشباه الموصلات.
وتوالت استثمارات الشركات المنافسة في عدة ولايات أخرى، فعلى سبيل المثال استثمرت شركة سامسونغ في بناء مصنع لصناعة الرقائق بولاية تكساس بتكلفة 17 مليار دولار، وقالت الشركة إنها تخطط لبناء 11 مصنعاً آخرَ في غضون العقد القادم بتكلفة إجمالية تقدر بنحو 192 مليار دولار.
وأشارت شركات تكنولوجيا كبرى مثل «أبل» و«تسلا» إلى اتجاهها نحو شراء رقائق أميركية الصنع.
شكوك حول جدوى الاستثمار
ورغم التأييد الذي حصده القرار، فإنه يُواجه أيضاً معارضة من البعض، وتصاعدت الشكوك الداخلية في شركة تصنيع الرقائق التايوانية بشأن مصنعها في الولايات المتحدة الذي تبلغ قيمته الاستثمارية نحو 40 مليار دولار، إذ يزعم بعض العاملين بالشركة أن هذا القرار قد يضر الشركة عن طريق صرف الانتباه عن التركيز على البحث والتطوير، الذي ساعد منذ فترة طويلة «تي اس ام سي» في التفوق على منافسيها بالقطاع.
وأعرب البعض عن مخاوفهم تجاه «تي اس ام سي»، إذ يرون أن الشركة وضعت نفسها في خضم معركة عميقة بين الولايات المتحدة والصين حول القيادة التكنولوجية.
وشكل هذا القرار أعباء مالية ضخمة وسط تحديات إدارية نظراً لصعوبة إنشاء واحدة من أكثر عمليات التصنيع تعقيداً المعروفة للإنسان في النصف الآخر من الكرة الأرضية.
كما يضع عبء نجاح مصنع أريزونا ضغطاً هائلاً على «تي اس ام سي»، فقد يعني الفشل انتكاسة لجهود الولايات المتحدة لتوسيع قطاع صناعة الرقائق المتقدمة، التي سبق تطورها بالفعل في آسيا منذ عقود، لتجد «تي اس ام سي» نفسها أنفقت المليارات على مصنع لا يمكنه إنتاج الرقائق الكافية لتعويض حجم الجهد المبذول في هذا الاستثمار.
وقالت نينا كاو، المتحدثة باسم «تي اس ام سي» في رسالة بريد إلكتروني، «إن القرار بشأن موقع المصنع في الولايات المتحدة استند إلى عوامل مختلفة، بما في ذلك طلب العملاء وفرصة السوق وفرصة الاستفادة من المواهب العالمية» في حين لم تشِر بشكل مباشر إلى المخاوف الداخلية بشأن استثمار أريزونا.
يضر ربحية الشركة
وقال ويندل هوانغ، المدير المالي لشركة «تي اس ام سي» في مكالمة أرباح الشهر الماضي، «بالطبع هذا المشروع مليء بالتحديات، إن تكلفة البناء في الولايات المتحدة يمكن أن تكون على الأقل أربعة أضعاف التكلفة في تايوان، مدفوعة بنفقات العمالة والتصاريح والامتثال التنظيمي والتضخم» وأضاف «الاستثمار الأميركي قد يضر بربحية الشركة هذا العام».
تحتاج «تي اس ام سي» أيضاً إلى موردين قريبين لتزويد مصنع أريزونا بالمواد الخام والمعدات والأجزاء المهمة، ومع ذلك قال بعض الموردين الذين يحاولون الانضمام إليها هناك إنهم يواجهون تحديات عمالية وتكاليف عالية.
تنتج «تي اس ام سي» ما يقدر بنحو 90 في المئة من الرقائق فائقة التطور في العالم.
تحديات أخرى تنتظر «تي اس ام سي»، إذ تتزامن صحوة التوظيف الخاصة بصانع الرقائق التايوانية مع انخفاض إجمالي في الطلب العالمي على الرقائق، ويشتري المستهلكون في جميع أنحاء العالم عدداً أقل من الأجهزة الإلكترونية بسبب ارتفاع التضخم والتباطؤ الاقتصادي الأوسع نطاقاً، في حين حققت «تي اس ام سي» أرباحاً قوية في يناير كانون الثاني، لكنها حذرت من انخفاض متوقع في الإيرادات في الأشهر الستة الأولى من العام.
وارتفع مخزون شركات تصنيع الرقائق في كوريا الجنوبية خلال يناير كانون الثاني، إلى أعلى مستوياته منذ نحو 26 عاماً. وبلغت نسبة المخزون مقابل المبيعات للرقائق نحو 265.7 في المئة خلال يناير كانون الثاني الماضي، وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء الكورية الجنوبية «يونهاب»، وهي أعلى نسبة سجلتها منذ مارس آذار عام 1997، حينما وصلت إلى 288.7 في المئة حسب هيئة الإحصاء الكورية.