في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة والتقلبات الجيوسياسية، تبرز بيانات التضخم كمؤشر حيوي يؤثّر على سياسات مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) وتوجهات السوق؛ فالارتفاع المستمر في معدلات التضخم يُسلّط الضوء على تحديات معقدة تواجه الأسر الأميركية والاقتصاد ككل، ما يضع ضغوطاً إضافية على صانعي القرار للتوفيق بين كبح جماح التضخم ودعم النمو الاقتصادي.

وارتفعت أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة بأكثر من المتوقع في مارس آذار، ليصل إلى 3.5 في المئة وسط زيادة تكاليف البنزين وإيجارات المنازل، ما دفع الأسواق المالية إلى توقع أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيؤجل خفض أسعار الفائدة حتى سبتمبر أيلول.

جاء الارتفاع متوقعاً ولكنه فاق النسبة المنتظرة بمقدار عُشر في المئة ليرتفع ثلاثة أعشار في المئة مقارنة بالمستوى المعلن في فبراير شُباط.

وهذا ثاني شهر يعاود فيه التضخم الارتفاع في الولايات المتحدة، وهي أعلى نسبة من أكتوبر تشرين الأول الماضي، ويشكّل التضخم عبئاً على كاهل الأسر الأميركية في شتى مجالات الإنفاق وعلى رأسها إيجارات المساكن.

ويقول جو يرق رئيس قسم الأسواق المالية في سيدرا ماركت في اتصال مع «CNN الاقتصادية» من لبنان، «على الرغم من ثبات معدل التضخم الأساسي عند 3.8 في المئة منذ شهرين فإن التضخم العام يُعدّ أكثر تعبيراً عن الوضع»، والتضخم الأساسي يستثني تغير أسعار الوقود والغذاء.

وأكد يرق أن صعود العام يعود في جانب منه لارتفاع أسعار النفط التي وصلت إلى 90 دولاراً.

ولا يتوقع يرق تخفيض أسعار الفائدة قبل الخريف المقبل، قائلاً إن التضخم قد يرتفع أكثر في يونيو حزيران ما سيصعب احتمالية تخفيض الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة في اجتماعه بعد القادم كما كان متوقعاً «لأن بعض أعضاء الفيدرالي الأميركي كانوا معترضين أساساً على تخفيض أسعار الفائدة حتى قبل معاودة التضخم إلى الارتفاع».

وجاءت قراءات أسعار المستهلكين القوية للشهر الثالث على التوالي، والتي أعلنتها وزارة العمل يوم الأربعاء، في أعقاب أنباء الأسبوع الماضي عن تسارع نمو الوظائف في مارس آذار، مع انخفاض معدل البطالة إلى 3.8 بالمئة من 3.9 بالمئة في فبراير شباط.

وذكر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول عدة مرات أن البنك المركزي ليس في عجلة من أمره للبدء بخفض تكاليف الاقتراض.

التضخم والسياسة النقدية

أمّا علي متولي الاستشاري الاقتصادي بشركة «آي بي آي إس» للاستشارات، فأكد في اتصال مع «CNN الاقتصادية» أن ارتفاع التضخم للشهر الثاني على التوالي جاء نتيجة ارتفاع أسعار قطاعي الطاقة والنقل، وقال «الطلب المتزايد على الكهرباء الناتج عن عمليات معالجة البيانات ذات الكثافة العالية مثل الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التأخير الطويل في توسيع الشبكات الكهربائية في أميركا بإمدادات الطاقة المتجددة وخطوط النقل، أدّى إلى تسريع ارتفاع فواتير الكهرباء في البلاد، فضلاً عن وصول أسعار النفط عند مستوى عالي وتباطؤ نشاط تكرير النفط مما أدى إلى ضعف نسبي في إمدادات الوقود».

ويرى متولي أن المخاطر الحقيقية هي «ارتفاع معدل التوظيف وزيادة الأجور حيث إن بياناتهما وصلت إلى أكثر من المتوقع في شهر مارس آذار الماضي ما يعني استمرار قوة سوق العمل والقوة الشرائية للمستهلك الأميركي، وكلها عوامل تقلل من احتمالية تخفيض الفيدرالي أسعار الفائدة نهاية هذا العام.

حتى هذه اللحظة يتوقع الفيدرالي الأميركي تخفيض الفائدة إلى 4.6 في المئة بحلول نهاية العام، ما يعني أنه سيجري نحو ثلاثة تخفيضات وهذا يبدو بعيد الحدوث في ظل هذه البيانات الجديدة».

ويضيف متولي أنه ليس هناك ما يستدعي زيادة أسعار أسعار الفائدة لأن ضرر تشديد السياسة النقدية أصبح عالياً على الحكومة والسوق في الولايات المتحدة.

وتبني الفيدرالي الأميركي سياسية تشددية تمثلت في رفع أسعار الفائدة منذ نحو عامين لتصل الفائدة من نصف في المئة في مارس آذار 2022 إلى 5.5 في المئة الآن، ما تسبب في موجة غلاء حادة كبدت المستهلكين الأميركيين الكثير من الخسائر في عام انتخابي ساخن، فضلاً عن حالة ضجر كبيرة بسبب تأجيل الكثيرين في الولايات المتحدة شراء المنازل نتيجة ارتفاع كلفة فوائد الرهن العقاري، وهو ما أدّى كذلك إلى عرض الملاك منازلهم بأقل من قيمتها في محاولة منهم لجذب مشترين محتملين عطل رفع أسعار الفائدة شروعهم في شراء منازل.

وبين مأزق الفائدة والوقود والرهن العقاري، وصلت خدمة الدين في الميزانية الفيدرالية إلى 25 في المئة، ما يضع المالية العامة الأميركية في مأزق آخر وهو ارتفاع العجز المالي بنسبة أكبر بسبب الاتفاق على حزم المساعدات الاجتماعية الذي ارتفع كذلك بأكثر من 10 في المئة.

في النهاية يرى يرق أنه على الرغم من استقلالية الفيدرالي الأميركي وقرارته، فإن حقيقة انعقاد الانتخابات الرئاسية قد تدفع الفيدرالي إلى تخفيض سعر الفائدة، أمّا متولي فيخشى على السوق الأميركية التي قد تخسر جاذبيتها لدى المستثمرين بسبب كل الارتباكات القائمة.

وستكون الأشهر المقبلة حاسمة للفيدرالي الأميركي في تحديد مسار سياسته النقدية في ظل التوقعات المتباينة حول معدلات الفائدة والتضخم، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي قد تضفي مزيداً من الأبعاد السياسية على القرارات الاقتصادية، وفي حين يحاول الفيدرالي الموازنة بين استقلاليته وضغوط السوق، تظل الأنظار موجهة نحو الاستراتيجيات التي سيتبعها للتعامل مع هذه المعضلة الاقتصادية المتعددة الجوانب، والتي ستحدد بشكل كبير ملامح المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة.